لا توصد الأبواب أمام مراجعات القضاة/ رئيف خوري
المحامي الدكتور رئـيف خوري:
أثار القرار الصادر عن المجلس التأديبي للقضاة، بتاريخ 4 أيّار 2023، المتضمّن صرف القاضي غادة عون من سلك القضاء، مجموعة من التساؤلات القانونية لدى رجال القانون، كما لدى العامة. منها ما سنتطرّق إليه تباعًا باختصار شديد:
أوّلًا: الإبتعاد كلّيًا عن الإثارة السياسية:
عند التطرّق إلى الإشكاليات القانونية المثارة، يقتضي تجنّب مقاربتها من خلفية سياسية أو فئوية، بل تنزيه معالجتها عن كلّ ما هو آني يلامس الغرائز أو الهوى السياسي. فالموقف السياسي يمضي ويدبر ويعرض عنه ويتغيّر وفقًا للأهواء السياسية، بينما تستمرّ المعالجة القانونية جزءًا من البنيان الفقهي والاجتهادي، وقطعة من لوحة النظام القانوني.
ثانيًا: النصّ غير الدستوري:
تعتري النصوص التشريعية اللبنانية الكثير من الشوائب غير الدستورية التي لا تتوافق مع الكتلة الدستورية. منها ما كان قد شرّع قبل تأسيس المجلس الدستوري وبدء عمله، وبعضها الآخر لم يتح الطعن به لعدم توفر الشروط الشكلية، بينما لم تمنح المحكمة الدستورية صلاحية النظر بعدم دستورية القوانين القديمة، ولا قبول مراجعة القضاة والمحاكم عند اصطدامهم بتطبيق نصّ غير دستوري.
تتضمّن المادة 87 من قانون التنظيم القضائي في فقرتها الثانية على نصّ غير دستوري يتعلّق بطرق الطعن من قبل القاضي المعني بقرار المجلس التأديبي للقضاة ضمن مهلة أقصاها خمسة عشر يومًا من تاريخ صدوره أمام الهيئة القضائية العليا للتأديب. فلقد ورد في هذه المادة الآتي:” … لا يقبل قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب أيّ طريق من طرق المراجعة بما فيها التمييز ويكون نافذًا بحدّ ذاته بمجرّد إبلاغه إلى صاحب العلاقة بالصورة الإدارية”.
سابقًا في كلّ من فرنسا ولبنان في حقبة نظام البرلمانية المطلقة ( Parlementarisme absolu ) كان النصّ التشريعي المشابه، المثيل لما هو وارد في المادة 87 المشار إليها، يعدّ بمثابة ” الحاجب التشريعي ” (Écran législatif ) الذي بوجوده يتعذّر على القاضي تجاوزه بل عليه تطبيقه كما هو وارد. وبالتالي لا يقوى القاضي على تقدير مدى دستوريته ومدى انطباقه على الدستور، بالرغم من أنّ القانون ليس دائمًا علمًا مضبوطًا وأمينًا ودقيقًا غير خال من الشوائب والنقص والإبهام، وغير صاف من الفقرات غير الدستورية.
ومن الأمور التي فرضتها حقبة البرلمانية المطلقة مسألة تحوير معايـيـر الإسناد التي توقّفت عند حدود القانون من دون تطبيق مبدأ سمو القواعد وتسلسلها. حيث تمّ اعتبار النصّ القانوني هو المرجع والسند النهائي لصدور القرارات القضائية وكأنّ الدستور ومقدّمته وإعلانات حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية هي فقط لإضافة الزخرفة القانونية. فتحوّل الدستور في هذه الحقبة إلى نصّ منسي لا تتمّ العودة إليه ولا يتمّ الإسناد إلى أحكامه لأنّ القانون يشكّل حاجبًا تشريعيًا يفصل بين القرار القضائي من ناحية، وبين الدستور من ناحية أخرى.
رأت المادة 87 من قانون التنظيم القضائي النور في حقبة البرلمانية المطلقة، وقبل إنشاء المجلس الدستوري وتفعيله في لبنان.
غير أنّه قد أتيح للمجلس الدستوري اللبناني النظر في دستورية الفقرة 2 من المادة 64 الجديدة من نظام مجلس شورى الدولة التي عدّلها القانون الرقم 2000/227 الصادر بتاريخ 31 أيّار 2000 المتعلّق بتعديل بعض مواد نظام مجلس شورى الدولة التي كانت تنصّ على أنّه:” لا تخضع القرارات التأديبية الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى للمراجعة بما في ذلك مراجعة النقض”.
وبنتيجة هذه المراجعة، أصدر المجلس الدستوري قراره الذي قضى بإبطال الفقرة 2 من المادة 64 المشار إليها معتبرًا أنّ مراجعة القضاء هي حقّ من الحقوق الدستورية الأساسية ومبدأ عام يتمتّع بالقيمة الدستورية. كما أنّها تخالف المادة 7 من الدستور التي تنصّ على مبدأ المساواة بما في ذلك المساواة في التمتّع بالحقوق المدنية وحقّ المواطن بالمراجعة القضائية Droit au recours الذي يتصف بالصفة الدستورية، فضلًا عن أنّ النصّ مخالف للمادة 20 من الدستور التي تؤكّد على الضمانة القضائية ومبدأ استقلال القضاء والقضاة.
ثالثًا: قرار الهيئة القضائية العليا للتأديب له صفة إدارية:
إعتبر المجلس الدستوري أنّه إذا كان يعود للمشرّع أن يلغي قانونًا نافذًا أو أن يعدّل في أحكام هذا القانون دون أن يشكّل ذلك مخالفة للدستور، أو أن يقع هذا العمل تحت رقابة المجلس الدستوري إلّا أنّ الأمر يختلف عندما يمسّ ذلك، حرّية أو حقًّا من الحقوق ذات القيمة الدستورية.
وبما أنّه عندما يسنّ المشترع قانونًا يتناول الحقوق والحرّيات الأساسية، فلا يسعه أن يعدّل أو أن يلغي النصوص النافذة الضامنة لهذه الحرّيات والحقوق دون أن يُحلّ محلّها نصوصًا أكثر ضمانة أو تعادلها على الأقلّ فاعلية وضمانة، وبالتالي فإنّه لا يجوز للمشترع أن يضعف من الضمانات التي أقرّها بموجب قوانين سابقة لجهة حقّ أو حرّية أساسية سواء عن طريق إلغاء هذه الضمانات دون التعـويض عـنـهـا أو بإحلال ضمانات محلّها أقلّ قوّة وفاعلية، معتبرًا أنّ النصّ المطعون فيه، بحرمانه القاضي من حقّ الدفاع عن نفسه أمام المرجع القضائي المختص وإقفال باب المراجعة بوجهه يكون قد ألغى ضمانة من الضمانات التي نصّ عليها الدستور والتي تشكّل للقاضي إحدى أهمّ ميزات استقلاله.
وبما أنّه إذا كان إناطة مجلس القضاء الأعلى سلطة تأديبية يشكّل ضمانة من الضمانات التي نصتّ عليها المادة 20 من الدستور، فإنّ إعطاء الحقّ للقاضي العدلي بالطعن في هذه القرارات التأديبية التي تصدر عنه عن طريق النقض، يشكّل ضمانة لا غنى عنها، مكمّلة للضمانة التي يوفّرها اشتراك مجلس القضاء الأعلى في القضايا التأديبية المتصلة بالقضاة العدليين.
وحيث إنّ منع القاضي العدلي من الطعن بقرارات المجلس التأديبي يؤدّي إلى حرمانه من ضمانة دستورية، ويشكّل بالتالي، انتقاصًا من الضمانات التي أوجبت المادة 20 من الدستور حفظها للقضاة.
وحيث إنّ قرارات الهيئة القضائية العليا للتأديب للقضاة العدليين هي من نوع من الأعمال التي تصدر بالدرجة الأخيرة عن هيئات إدارية ذات صفة قضائية، والطعن بها أمام القضاء المختص، يشكّل بالنسبة للقاضي العدلي، إحدى الضمانات التي نصّ عليها الدستور، وحرمانه من حقّ المراجعة يتعارض مع أحكام الدستور ومع المبادىء العامة الدستورية.
فقرّر المجلس الدستوري أنّ مجلس القضاء الأعلى إنّما يتولّى الشؤون التأديبية للقضاة كهيئة إدارية ذات صفة قضائية، بحيث إنّه إذا اعتبرت القرارات التأديبية الصادرة عن مجلس القضاء الأعلى غير قابلة للمراجعة، يؤدّي ذلك إلى إزالة ضمانة قانونية محمية دستورًا، وتدخل في إطار حقّ الدفاع المحمي أيضًا دستورًا، وتراجعًا عن الضمانة التي يتمتّع بها القضاة في ممارسة مهامهم ومحاسبتهم.
وبما أنّ حقّ مراجعة القضاء هو من الحقوق الدستورية الأساسية وهو يشكّل بالنسبة للقاضي في القضايا التأديبية عندما يكون محلّ مؤاخذة مسلكية، إحدى الضمانات التي عنتها المادة 20 من الدستور. فعندما يمارس مجلس القضاء الأعلى سلطة التأديب أو الهيئة المنبثقة عنه، وفقًا للمادة 85 وما يليها من المرسوم الإشتراعي رقم 83/150، يعتبر هيئة إدارية ذات صفة قضائية مثله مثل أيّة هيئة تأديبية للموظّفين منحها القانون صلاحيات معيّنة.
إنّ إناطة مجلس القضاء الأعلى سلطة تأديبية يشكّل ضمانة من الضمانات التي نصّت عليها المادة 20 من الدستور، بيد أنّ إعطاء الحقّ للقاضي العدلي بالطعن في هذه القرارات التأديبية التي تصدر عنه عن طريق النقض، يشكّل ضمانة لا غنى عنها، مكمّلة للضمانة التي يوفّرها اشتراك مجلس القضاء الأعلى في القضايا التأديبية المتصلة بالقضاة العدليين.
وبما أنّ قرارات المجلس التأديبي للقضاة العدليين هي من نوع الأحكام التي تصدر بالدرجة الأخيرة عن هيئات إدارية ذات صفة قضائية، والطعن بها أمام القضاء المختص، يشكّل بالنسبة للقاضي العدلي، إحدى الضمانات التي نصّ عليها الدستور، وحرمانه من حقّ المراجعة، يتعارض إذن، مع أحكام الدستور، ومع المبادىء العامة الدستورية.
وعليه، فإنّ الصفة الإدارية لقرارات التأديب الصادرة عن الهيئة القضائية العليا للتأديب قابلة للطعن أمام مجلس شورى الدولة تفاديًا لخرق الدستور بحرمان المحكوم بعقوبة إدارية من التقدّم بطعن قضائي بها.
رابعًا: يعود للقاضي المعني مراجعة مجلس شورى الدولة طعنًا بالقرار التأديبي:
لا يستقيم استقلال القضاء إذا لم يتأمّن استقلال القاضي بتوفير الضمانات اللازمة التي تحقّق هذا الاستقلال، ومن ضمنها حقّ الدفاع الذي يتمتّع بالقيمة الدستورية، وعدم إقفال باب المراجعة أمامه عندما يتعرّض لتدابير تأديبية.
تنصّ المادة 117 من نظام مجلس شورى الدولة على أنّه يمكن تمييز الأحكام الصادرة بالدرجة الأخيرة عن الهيئات الإدارية ذات الصفة القضائية، وإن لم ينصّ القانون على ذلك، ممّا يعني أنّ مراجعة النقض لهذه الأحكام تتعلّق بالإنتظام العام.
وعلى أثر صدور قرار المجلس الدستوري المار ذكره، أصبحت قرارات الهيئات الإدارية ذات الصفة القضائية ومنها قرارات الهيئة القضائية العليا للتأديب قابلة للنقض أمام مجلس شورى الدولة بالرغم من وجود نصّ تشريعي يحظّر المراجعة. وقد سلك العديد من المحالين، طريق الطعن التي أتيحت لهم أمام مجلس شورى الدولة سعيًا لنقض القرارات التأديبية الصادرة بحقّهم.
تولّى مجلس شورى الدولة النظر بمراجعات الطعن المقدّمة أمامه، ونظر بها كمرجع تمييزي حتّى ولو كانت المراجعات تصطدم ” بالحاجب التشريعي” الذي ينصّ على أنه لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة، فأهدر القضاء الإداري النصّ التشريعي الذي يحظرها، وتمنّع عن تطبيقه.
إلّا أنّه إذا أتيح أمام القاضي المعني إمكانية مراجعة القضاء الإداري طعنًا بالقرار التأديبي، فهذا لا يعني البتّة، هراء وعبث ما توصّلت إليه الهيئات التأديبية.
“محكمة” – السبت في 2023/5/13