في مفهوم القوة الإبرائية لليرة اللبنانية ومدى حصرية التعامل بالعملة الوطنية/فرانسوا ضاهر
القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهر:
أ – إن القواعد القانونية التي ترعى مسألة القوة الإبرائية لليرة اللبنانية ومدى حصرية التعامل بالعملة الوطنية هي التالية بشكلٍ رئيسي:
المواد 7 و8 و192 و229 من قانون النقد والتسليف والمادة 301 من قانون الموجبات والعقود.
أما تلك المواد فقد نصّت تباعاً على التالي:
المادة 7: ” للأوراق النقدية … قوة إبرائية غير محدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية. ”
المادة 8: ” القوة الإبرائية للنقود الصغيرة هي الآتية: …
المادة 192: “تطبّق على من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية بالشروط المحدّدة في المادتين 7 و8 العقوبات المنصوص عليها بالمادة 319 من قانون العقوبات. ”
المادة 229: ” ريثما يحدّد بالذهب سعر جديد لليرة اللبنانية بالإتفاق مع صندوق النقد الدولي وريثما يثبت هذا السعر بموجب قانون وفقاً للمادة الثانية، يتّخذ وزير المالية الإجراءات الإنتقالية التالية التي تدخل حيّز التنفيذ بالتواريخ التي سيحدّدها:
1- يعتمد لليرة اللبنانية، بالنسبة للدولار الأميركي المحدّد بـ 0,888671 غرام ذهب خالص سعر قطع حقيقي أقرب ما يكون من سعر السوق الحرّة يكون هو «السعر الإنتقالي القانوني» لليرة اللبنانية.
2- (…)
3- (…)
4- تحسب على أساس «السعر الإنتقالي القانوني» الضرائب والرسوم التي تستوفى عن المبالغ المحرّرة بالعملات الأجنبية والتي تحسب حالياً على أساس السعر المحدّد بالمادة الأولى من قانون 24 ايار سنة 1949…
5- إن العملات الأجنبية التي تستوفيها الدولة تدخل في المحاسبة بالسعر الإنتقالي القانوني.
6- تعدّل بالنسبة الى السعر الإنتقالي القانوني نفقات الدولة الخارجية المحدّدة بالليرات اللبنانية وتحوّل من الآن فصاعداً بسعر السوق الحرّة. ”
المادة 301 م.ع.: ” عندما يكون الدين مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد. وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل إجبارياً بعملة الورق، يظل المتعاقدون أحراراً في إشتراط الإيفاء نقوداً معدنية أو عملة أجنبية. ”
ب – إنطلاقاً من هذه القواعد الوضعية، ما هو مفهوم القوة الإبرائية لليرة اللبنانية، وما هو مدى حصرية التعامل بالعملة الوطنية؟
ج – إن القوة الإبرائية لليرة اللبنانية على مجمل الأراضي اللبنانية، إنما تفيد أن التداول بها هو مبرىء للذمية المالية.
وإن من يمتنع عن قبول تلك العملة (بالشروط المحدّدة في المادتين 7 و8)، بمعنى أنه يتنكّر لقوتها الإبرائية غير المحدودة على الأراضي اللبنانية أو يرفض التعامل بها لعدم تمتّعها بالقوة الإبرائية. إنما يرتكب جرماً جزائياً بمفهوم المادة 192 ق.ن.ت.
ذلك أن هذين التنكّر والرفض ينمّان على عدم الثقة بالعملة الوطنية ويزعزعان الثقة في متانة نقد الدولة.
أمّا الحالة الجرمية الملحوظة بنص المادة 192 ق.ن.ت. فهي حالة قانونية مختلفة تماماً عن الحالة التي يكون فيها السداد واقعاً بالعملة الوطنية، ولا يكون ذلك السداد كافياً، كمّاً وحجماً، لاعتبار ذمة المدين مبرأة، بحيث إنه إستناداً الى حكم المواد 7 و8 و 192 ق.ن.ت.، إن التعامل بالعملة الوطنية له قوة إبرائية غير محدودة على أراضي الجمهورية اللبنانية. وإن هذه القوة الإبرائية لا علاقة لها بإلزامية التعامل بتلك العملة ولا بحصرية التعامل بها على تلك الأراضي.
د – فالتعامل بالعملة الوطنية على الأراضي اللبنانية ليس إمتيازاً، يحظِّر أو يَمنَع التعامل بسائر العملات الأجنبية على تلك الأراضي.
ذلك أنه لا يوجد نص يحظّر التداول بالعملة الأجنبية. كما ولا يوجد نص يحصر التداول على الأراضي اللبنانية بالعملة الوطنية.
كما وإن القوة السياديّة للعملة الوطنية على أراضي الجمهورية اللبنانية لا تحول دون التداول بالعملة الأجنبية ضمن تلك الأراضي. علماً أن نص النبذة الأولى من المادة 301 م.ع. الذي أوجب إيفاء الدين المكوّن من مبلغ من النقود بعملة البلاد أي بالعملة الوطنية، قد قابله تليين واستثناء وردا في نص النبذة الثانية من تلك المادة، الأمر الذي أسقط صفة الإنتظام العام عن النبذة الأولى من المادة 301 لكون النبذة الثانية من تلك المادة قد أجازت التوافق على ما يخالفها، ولو في ظرف معيّن أضحى متقادماً (vétuste) بفعل تطور التعامل بالعملة على أشكالها، بين ورقية ومعدنية، منذ صدور قانون الموجبات والعقود في ١٩٣٢/٣/٩ وحتى اليوم، وذلك عملاً بالمبدأ القانوني العام القائل بأن صفة الإنتظام العام تسقط عن القاعدة القانونية عندما تتضمّن إستثناءات أو تُجيز مخالفتها.
بحيث يمكّن المتعاقدين، في ضوء ما تقدّم، أن يشترطوا التعامل بسائر العملات الأجنبية، ولا يكون تعاملهم هذا مسقطاً أو ماساً بالقوة الإبرائية للعملة الوطنية، على الإطلاق.
هـ – وفي أي حال، وفي سياق ما تقدّم، نلفت الى أن قانون النقد والتسليف قد نصّ في الفقرة الخامسة (5) من المادة 229 منه، على أنه يمكن الدولة أن تستوفي العملات الأجنبية (“إن العملات الأجنبية التي تستوفيها الدولة تدخل في المحاسبة بالسعر الإنتقالي القانوني”).
كما يمكن الدولة، وفق نص الفقرة السادسة(6) من المادة ذاتها، أن تحوّل نفقاتها الخارجية المحدّدة بالليرة اللبنانية الى عملة أجنبية على سعر السوق الحرّة (“تعدل بالنسبة الى السعر الإنتقالي القانوني نفقات الدولة الخارجية المحدّدة بالليرات اللبنانية وتحوّل من الآن فصاعداً بسعر السوق الحرّة”).
كما يمكنها كذلك، وفق نص الفقرة الرابعة (4) من المادة عينها، أن تستوفي الضرائب والرسوم عن المبالغ المحرّرة بالعملات الأجنبية، وأن تحتسبها بالليرة اللبنانية على السعر الإنتقالي القانوني لها الذي حدّدته الفقرة الأولى من المادة عينها (“تحسب على أساس السعر الإنتقالي القانوني الضرائب والرسوم التي تستوفى عن المبالغ المحرّرة بالعملات الأجنبية…”).
الأمر الذي يستفاد منه بأن التعامل بالعملة الأجنبية لا ينقض القوة الإبرائية للعملة الوطنية. كما وأن التعامل بالعملة الوطنية على أراضي الجمهورية اللبنانية ليس إمتيازاً حصرياً لها.
وأن نصوص قانون النقد والتسليف (المواد 7 و8 و192 و229) التي هي نصوص متكاملة ومتجانسة بحكم القواعد التي ترعى التشريع بحدّ ذاته، إنما تخلص الى النتيجة المتقدّمة. وهذا ما يعزّز التفسير الذي أُعطي لميدان تطبيق المادة 301 قانون موجبات وعقود، الذي يأتي متقاطعاً مع تلك النتيجة.
و – عسى أن يعمد الإجتهاد الى مراعاة حسن فهم وتفسير وتطبيق هذه القواعد القانونية حتى يخلص في أحكامه وقراراته الى نتائج قانونية سليمة وعادلة ومنصفة ومؤتلفة في آن مع طبيعة الإقتصاد اللبناني المدولر في مجمله، ومع مقتضياته التي ترمي الى حماية الرساميل الموظّفة في البلد وتحفيز الإستثمارات المالية فيه.
“محكمة” – الأربعاء في 2023/10/4