في خمسيننا في المحاماة.. ما زلنا واقفين/نهاد جبر

نهاد جبر (نقيب المحامين سابقاً):
كم كنت أودُّ أن أكون حاضراً مكرّماً بين المكرّمين زملائي في حفل التكريم تاريخ 2025/6/16.
منهم من ألتقيتُ به على مقاعد الدراسة من الصف الثاني عشر وحتى صف الفلسفة في مدرسة الفرير للأخوة المريميين في جونيه وديك المحدي ( شانفيل ) ، ومنهم في جامعتي القديس يوسف والحكمة ، ومعهم كلهم في المحاماة منذ أكثر من خمسين عاماً .
إنّما حصلت ظروف شديدة الخصوصية حالت دون رغبتي هذه ، أحتفظ بها دون الإفصاح عنها مهنّئاً المكرّمين جميعاً ، متمنياً تفهّم موقفي الذي اتخذته غصباً عني ، وقبول أعتذاري ، ناشراً كلمتي بالمناسبة ، وهي الكلمة التي أرسلتها الى كل زميل مكرّم في يوم التكريم ، بواسطة البريد الألكتروني أو بالواتساب على رقم الهاتف.
*****
الزملاء المكرّمون،
الحضور الكريم ،
خمسون سنة ونيّف في المحاماة، مرّت على انتسابنا إلى نقابة المحامين في بيروت، عشناها مع كبارنا، وسرنا على خطاهم، نوشّي من كلّ سنة من سنيننا خيطاً في نسيج رداء المحامين ، زهونا به أمام أقواس المحاكم ورفعنا لواء الحق والعدالة والحرية،
يوم كانت المحاماة في أوجها، ويوم كان لبنان دولة.
حفل التكريم، انطلق لأوّل مرّة ، سنة 1957 في عهد النقيب فؤاد رزق، تكريماً للنقيبين جبرايل نصار ووديع نعيم، وأقيم بحضور فخامة رئيس الجمهورية كميل شمعون ووزير العدل آنذاك المحامي كاظم الخليل وسائر المسؤولين .
وسنة 1969، رأى النقيب فايز حداد تكريس هذا الحفل كتقليد سنوي، فأُقيم بحضور فخامة رئيس الجمهورية شارل حلو وأركان الدولة.
وسنة 1974، أحيت نقابة المحامين في عهد النقيب وجدي الملاط حفل تكريم للنقباء السابقين الياس نمور وفؤاد الخوري وإدمون كسبار وفؤاد رزق والأساتذة إدوار نون والياس جهشان وفيليب درغام. وقد تلا الحفل عشاء في القصر الجمهوري قلّدهم خلاله فخامة الرئيس سليمان فرنجية أوسمة رفيعة.
– من الكتاب الماسي للنقابة –
لم ينقطع النقباء السابقون عن إقامة هذا الحفل سنوياً ، الى أن اندلعت الحوادث سنة 1975، وأدت الى انتكاس الاستقرار في الوطن، فتعذّر على النقابة إقامة هذا الحفل، إلى أن أُعيد إحياؤه في عهد النقيب سمير أبي اللمع سنة 1992، وحافظت النقابة على هذا التقليد ولم تنقطع عنه إلّا لظروف قاهرة.
واليوم،
رأى النقيب ومجلس النقابة إعادة إحياء هذا التقليد، مع بداية عهد جديد في لبنان بانتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ما نستشفّ منه كل أمل بقيام الدولة.
ألا سدّد الله خطاه في ما يرمي إليه ونرمي.
ومن حسن طالعنا، أن نكون مكرّمين هذه السنة، ومن بيننا النقيب سليم الأسطا المُتكلم باسمنا ، بحضور الزميلة لودي مسعود نادر عضو مجلس النقابة سابقاً مكرّمين معنا.
أيها الزملاء المكرّمون،
طيلة خمسيننا في المحاماة، صادفتنا فترات استقرار أمني وقضائي زاولنا خلالها المهنة برصانة وجدّية، على خطى من سبقنا من كبار، أسهموا في إعلاء شأنها وشاركوا في وضع دستور الدولة وقوانينها، وصادفتنا فترات أليمة، أرخت حوادثها على أوضاع الدولة ومؤسساتها وإداراتها فتهالكت وتعطّلت أعمالنا، وصمدنا في كنف نقابتنا التي بقيت عتيّة على الزمن وغدراته، بتوحّد المحامين حولها، لم تفرّق بينهم، لا المصالح الشخصية ولا المذاهب ولا الطوائف ولا المناطق، وأكملنا، لم ينل منّا اليأس ولم تدغدغ إرادتنا الهجرة، ولا الظروف الإقتصادية والمعيشية، ولا القضاء غير المستقرّ، ولا تدهور العملة الوطنية، وأكملنا، شاهرين السيف قلماً، غِمدُه الكتاب، موقفنا الفاصل بين الحق والباطل ، بين الصحّ والغلط ، بين العدالة والظلم، بين الإستزلام والحرّية،
حبّذا لو يتوحّد اللبنانيون حول وطنهم، على ما توحّد المحامون حول نقابتهم، فيسلم لبنان.
أيها المكرّمون،
قبل الخمسين في المحاماة، بين البعض منّا، لقاءٌ أقدم من الخمسين، يعود إلى أيام الدراسة في مدرسة الفرير للأخوة المريميين في جونية وديك المحدي، ومن بعدها في جامعتي القديس يوسف والحكمة،
بيننا جميعاً خمسين سنة وأكثر جمعتنا منذ الإنتساب إلى نقابة المحامين في بيروت وأمام أقواس المحاكم وفي قصور العدل،
بينكم جميعاً وبيني تقدير مني لانتخابكم لي عضواً في مجلس النقابة لدورات خمس، آخرها انتخابي نقيباً سنة 2011، ما أولاني شرف أن أكون مكرّماً معكم ، فشكراً لكم وهنيئاً لنا هذا التكريم.
كم كنت أتمنّى، لولا الفسحة الضيقة من الوقت لكلمتي، أن أذكر بالإسم كلّ واحد منكم، أكبّر فيه دفء الصداقة والمودّة وأعدّد مزاياه في العلم والمعرفة وأسرح إلى عوالم زمن حلت فيه حميدُ الخصال في التعامل بأخلاقيات عالية، أستعيد ذكريات ومواقف، تموج في خاطري، أرسم منها صورة ما أنتم عليه في المحاماة، رفلت بكم وتمايلت وشمخت عزّاً وكرامة ومناقبية.
واغتنم المناسبة، للفتة صادقة لزملاء لنا، دعاهم الله إليه قبل خمسينهم في المحاماة، حبذا لو كانوا حاضرين معنا ليعلّق على صدر كلّ منهم ميدالية يستحقونها.
وعلى هامش كلمتي ،
في مجرى همومنا القضائية ، كثيرة هي الأمور، إنما الأهم ، مواكبة قانون استقلالية القضاء لإقراره، علّه يثبّت استقلالية القضاة ، وسدّ النقص في أعداد القضاة من المحامين ما يساهم في البت في الدعاوى العالقة ، وأخصّها جريمة مرفأ بيروت طوياً نهائياً لهذا الملف ما يُبلسم جراحاً لم تندمل، كما وملفات ودائع المودعين ومنهم ودائع النقابة واستعادتها كاملة ما يُعيد الثقة بالقطاع المصرفي ، ووضع حدّ نهائي للفساد المستشري وتحريك الملفات العالقة وما يستجدّ منها ، الى سواها من القضايا التي لا مجال لتعدادها ، ما يُعيد ثقة اللبنانيين والمستثمرين بالقضاء، الذي بدونه لن تُجدي محاولات الإصلاح التي هي السبيل الأساسي إلى دولة القانون التي ننشد قيامها بكل أمل.
ألا أبعد الله عن لبنان خيبات الأمل.
أيها المكرّمون،
جيلنا جيل آمال، ومن صدق هذه الآمال، يولد لبنان جديد، نمضي فيه لسنين آتية، وعلى صدر كل منّا الميدالية النقابية، كلّلتنا به نقابتنا العاتية على الظلم بالمحبة، على الحقد بالتسامح، على الغدر بالتعالي عنه، على درء الأخطار بالشورى، على اجتراح الحلول بالتروّي ، على الإحتكام للديمقراطية بأصولها الحضارية، كما يمارسها المحامون اللبنانييون ونجحوا ،
أو لم يحنْ بعدُ الوقت أمام المسؤولين للتحلّي بهذه الصفات لخلاص لبنان من أزماته.
أيها المكرّمون،
طيلة خمسين سنة، تخطينا المحن، لم يُدرك الوهنُ صوتنا ، ولا غلب العمر عودنا ، ولم تكلّ عزيمتنا، وأكملنا بكلّ ثقة وإيمان بالمحاماة مهنة تُحاكي التطوّر والتجدّد نضعها أمانة لأجيال صاعدة واعدة تطيّب من ماضينا مستقبلاً زاهراً لهم، في نقابة نراها صورة مصغّرة عن وطن نحلم به وإليه نطمح.
منذ بدايتنا زاولنا المحاماة وقوفاً. وقفٌ علينا أن نظلّ واقفين، فالمحاماة مهنة الواقفين لا الجالسين، ننتمي إلى أجيال سبقتنا منذ ماية وست سنوات من عمر النقابة، وكانوا دوماً واقفين ، ونحن في خمسيننا في المحاماة ، ما زلنا واقفين، وسنُكمل وقوفاً إلى ما قدّر الله.
“محكمة” – السبت في 2025/6/21