مقالات

الخناق يشتدّ على سلامة: تحقيقات سويسرا تشمل احتمال ضلوع مصارفها في غسل الأموال

تفاعلت قضيّة الطلب الرسمي السويسري المساعدة القضائية اللبنانية في تحقيق جار حول شبهة اختلاسات وغسيل أموال في مصرف لبنان*.
وقد ورد ذلك في طلب رسمي حملته السفيرة السويسرية في بيروت مونيكا شمودز كيرغوز، إلى وزيرة العدل ماري كلود نجم قبل أسابيع قليلة. وهو يطلب يقع في 22 صفحة يتضمّن تفاصيل كثيرة تركّز على متابعة طريق تحويلات مالية خرجت من مصرف لبنان إلى حسابات تخصّ رجا سلامة (شقيق الحاكم) وماريان حويك (مساعدته الرئيسية) خلال سنوات سابقة.
وتبيّن لمصادر معنية أنّ التوجّه المباشر من السفيرة إلى وزيرة العدل كان هدفه الحفاظ على سرّية الملفّ. وإنّ هذا ما دفع حكومتها إلى عدم إرساله بالطريقة التقليدية أيّ من خلال مراسلات تقوم بها وزارة العدل في سويسرا إلى وزارة العدل في لبنان عبر وزارة الخارجية. لكنّ السفيرة نفسها كما وزيرة العدل تستغربان كيف أنّ الخبر انتشر بسرعة، ويجري الآن العمل على منع تسرّب نصّ الطلب نفسه إلى وسائل الإعلام.
وبناءً على الطلب، قامت وزيرة العدل بإحالة الملفّ إلى النائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات والذي سبق له أن تلقّى طلبات كثيرة مشابهة، وحصل أن تمّ تجاهل طلبات “غير موثوقة” أو واردة من “جهات غير موثوقة”، ولا تخصّ سلامة وحده. لكنّ طبيعة الملفّ الموجود يشير إلى معطيات “خطيرة” بحسب أحد المسؤولين البارزين، والذي قال إنّ مصرفاً في سويسرا أجرى عملية تدقيق في حوالات مالية بناءً على طلب “جهة ما”. وأنّه وصل إلى خلاصات تفترض الحصول على أجوبة مباشرة من الشخص المعني (أيّ سلامة وشقيقه ومساعدته) وأخرى من الجهات القضائية اللبنانية الرسمية. وهو ما حتّم إحالة نتائج هذا التحقيق إلى القضاء السويسري الذي قرّر بعد مراجعة الملفّ طلب المساعدة القضائية من لبنان.
وبحسب الآلية، فإنّ على النائب التمييزي، وبعد الإستماع إلى حاكم مصرف لبنان، إعداد لائحة أسئلة وإرسالها إلى هيئة التحقيق الخاصة عبر مفوّض الحكومة، الأمر الذي قد يفرض روتيناً يسمح حتّى بتدخّل سياسي، علماً بأنّ المعضلة الأخرى المتعلّقة بكون سلامة هو نفسه رئيس هيئة التحقيق الخاصة، تتمّ معالجتها من خلال تولّي نائبه وسيم منصوري المهمّة، حيث إنّ سلامة سبق أن فوّضه بتولّي مهمّات نيابة عنه.
سلامة الذي استمع إلى أسئلة عويدات أمس، قدّم إجابات محدّدة تركّز على الآتي:
أوّلاً: إنّه لم يجر أيّ عمليات تحويل في الفترة اللاحقة على 17 تشرين الأوّل 2019، وإنّ كلّ العمليات جارية قبل حزيران عام 2016.
ثانياً: إنّ التحويلات حصلت من قبل حسابه الخاص في مصرف لبنان ولا دخل لأيّ حسابات أخرى تخصّ مصرف لبنان أو أيّ مؤسّسة تابعة له بهذه التحويلات.
ثالثاً: إنّه مستعدّ لمواجهة القضاء السويسري مباشرة من خلال التوجّه إلى بِرن لهذا الغرض.
رابعاً: إنّ سلامة يتّهم جهات سياسية ومنظّمات سياسية تتخذّ طابعاً مدنياً وحقوقياً بالوقوف خلف الحملة، وإنّه ينوي مقاضاة هذه الجهات والشخصيات وكلّ من يشارك في “تشويه سمعته” أو “التأثير سلباً على الوضع المالي العام للبنان وعلى مؤسّسات المالية المركزية ولا سيّما مصرف لبنان.”
وقد عمد سلامة بعد الإجتماع مع عويدات إلى نشر بيان مقتضب قال فيه إنّه “جزم بأنّ أيّ تحاويل لم تحصل من حسابات لمصرف لبنان أو من موازناته”، كما أنّه قدّم لعويدات “كلّ الأجوبة عن الأسئلة التي حملها بالأصالة، كما بالنيابة عن المدعي العام السويسري.”
وعلمت “الأخبار” أنّ التحقيقات في سويسرا تركّز على أمور عدّة، من بينها:
أوّلاً: طبيعة الأموال التي تمّ تحويلها إلى هذه الحسابات، ولماذا جرت باسمي شقيق سلامة ومساعدته؟
ثانياً: وجهة استخدام هذه الأموال ومتابعة ملفّ الأصول العقارية والمالية للمجموعة (سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويك) في كلّ أوروبا.
ثالثاً: السعي إلى الإستماع إلى سلامة نفسه وإلى شقيقه ومساعدته وكلّ “من يساعد التحقيق.”
رابعاً: التدقيق في مصدر الأموال التي استخدمت في التحويلات ومن أين أتى مبلغ يقارب الـ 352 مليون دولار إلى حسابات سلامة وشقيقه ومساعدته.
على أنّ هناك جانباً آخر للأزمة، يظهر من خلال نقاش في سويسرا وأوروبا نفسها، حيث قال أكثر من سفير أوروبي في لبنان، إنّ التدقيق المالي الجنائي سيحصل من قبل الأوروبيين طالما رفض اللبنانيون القيام به. حتّى ولو كان على شكل استجابة لدعاوى رفعت من قبل لبنانيين في الخارج أو مودعين في المصارف اللبنانية من الذين فقدوا القدرة على استخدام أموالهم. وينفي هؤلاء السفراء وجود أيّ إمكانية لوقف هذه العملية القضائية، وخصوصاً أنّ جانباً منها يتعلّق باتهامات لمصارف ومؤسّسات مالية أوروبية بالتورّط في عمليات غسل أموال لبنانية.
وفي هذا السياق، جاء التقرير المنشور على موقع القناة السويسرية الناطقة بالألمانية، والذي كتبه أوليفر واشنطن، تحت عنوان “رحلة المليارات من لبنان في سويسرا” وتحدّث فيه عن احتمال أن “تواجه سويسرا فضيحة أخرى تتعلّق بغسيل الأموال. ويقال إنّ البنوك قبلت أموالاً من لبنان”.
وأورد التقرير أنّ “الإخطار من مكتب المدعي العام الفيدرالي قصير ولطيف: كلّ ما كتبه هو أنّه يقوم بتحقيقات جنائية لأنّ الأموال الواردة من البنك المركزي اللبناني قيل إنّها تمّ إخفاؤها وغسلها في سويسرا على نطاق واسع ؛ لذلك طلب من السلطات اللبنانية المساعدة القانونية.”
ونقل التقرير عن “فابيان مولينا، مستشار الحزب الاشتراكي الوطني، أنّ شيئاً ما يحدث أخيراً. لقد كان يتابع هذه القصّة لفترة طويلة. لقد عرف المجلس الاتحادي والمدعي العام الفيدرالي وشركة Finma منذ فترة طويلة أنّ هذه الأموال موجودة في سويسرا. ومع ذلك، فقد مضى وقت طويل قبل بدء الإجراءات.”
وحسب التقرير نفسه، فإنّ “مكتب المدعي العام الاتحادي لا يؤكّد ذلك؛ كما أنّه لا يذكر أيّ شيء عن سبب التحقيق الآن وما إذا كانت قد جمّدت الأموال المودعة هنا. ومع ذلك، يمكن الإفتراض أنّه سيتمّ حجز الأموال، حيث تتكهّن مولينا بأنّ هناك ما مجموعه حوالى ملياري فرنك من الأموال اللبنانية مخبّأة في سويسرا ويطالها التحقيق.”
وردّاً على سؤال من الكاتب نفسه عمّا إذا كانت البنوك تفعل ما يكفي ضدّ غسيل الأموال؟ يقول التقرير:”مرّة أخرى، يطرح السؤال عمّا إذا كانت البنوك السويسرية تأخذ التزامات العناية الواجبة على محمل الجدّ بما فيه الكفاية.بالنسبة إلى مولينا. وينسب إلى مولينا قوله:“لا تزال سويسرا لديها نظام سيئ لغسيل الأموال ــــ من الواضح أنّ البنوك تتجاهل واجبها في العناية”. بالإضافة إلى ذلك، افتقرت منظّمة Finma المنظّمة للأسواق المالية إلى الإرادة أو الوسائل لتصحيح “سوء سلوك المركز المالي.”
ويشير التقرير أيضاً إلى أنّ منظّمة “Finma” أو الجهة المنظّمة للأسواق المالية، “ستتصرّف إذا لزم اتخاذ تدابير إضافية. وهي لا تعلّق على طلب محدّد للمساعدة القانونية. ومع ذلك، ترفض المنظّمة تقديم أيّ تفاصيل، لكنّها تؤكّد أنّه “يمكننا أن نؤكّد لك أنّنا كنّا على اتصال مع البنوك ذات الصلة في سياق لبنان وأنّ الإمتثال لالتزامات العناية الواجبة لغسيل الأموال يلعب دوراً مهمّاً في أنشطتنا الإشرافية، بما في ذلك كيفية تعاملنا مع العلاقات التجارية مع الشخصيات المعرّضة سياسياً (PEP) وعلاقات العمل مع زيادة المخاطر. كما كنّا على اتصال بالسلطات الوطنية والدولية.”
البعد السياسي
وفي حصيلة اتصالات واسعة جرت خلال الساعات الـ 48 الماضية في لبنان، وشملت طيفاً واسعاً من المسؤولين السياسيين والمصرفيين والماليين وشخصيات إعلامية وقضائية وأمنية اهتمت بملف سلامة، فإنّ “القلق” هو من احتمال أن يكون هنا قرار غربي بإطاحة طبقة سياسية بكاملها عن طريقة إدانة سلامة. وهو أمر يظهر متناقضاً مع جهود العواصم الغربية لتركيز الضغط على حلفاء حزب الله حصراً. عدا عن أنّ كلّ تجارب الماضي تؤكّد أنّ الأميركيين كما الأوروبيين لم يضعوا يوماً سلامة نصب أعينهم كهدف بحدّ ذاته.
ومع ذلك، فإنّه يصعب فصل الموضوع بتوقيته عن السياق السياسي. الفرنسيون سبق أن طرحوا ضرورة إقالة سلامة وإجراء التدقيق في حسابات مصرف لبنان، إلاّ أنّهم ووجهوا حينها بحماية سياسية أميركية لرجل واشنطن في القطاع المصرفي، عبّرت عنها بوضوح السفيرة الأميركية في بيروت، وبحماية طائفية عبّر عنها البطريرك بشارة الراعي.
إنتهت المحاولة الفرنسية لإقالة سلامة في ذلك الحين عند هذا الحدّ، رغم أنّ باريس كان لديها أكثر من مرشّح لخلافته، ومنهم من الداخل اللبناني.
بناءً عليه، فإنّ تحريك الملفّ في سويسرا، في الفترة الإنتقالية الأميركية، لا يمكن النظر إليه إلاّ بوصفه محاولة جديدة على الأقلّ لإحراجه. فبعدما تبيّن للفرنسيين أنّه لا يمكن إزاحة سلامة مع الحفاظ على ماء وجهه على خلفية إدارته للمصرف المركزي، يرمى الملفّ الذي يطاله هذه المرّة شخصياً لإحراجه فإخراجه.
وما يعزّز فرضية السياق السياسي لتحريك الملفّ القضائي اليوم أنّ التقرير الذي فتحت النيابة العامة السويسرية التحقيق بناءً عليه، أعدّ سنة 2016 عن تحويلات سلامة بناءً على طلب “جهات سيادية” فرنسية، بحسب معلومات “الأخبار”. لكنّ السؤال المطروح، هل يتدخّل الأميركيون مجدّداً لحماية سلامة؟ وهل وجود شبهة جنائية حوله يسمح لهم بالتدخّل مع سويسرا أو يردعهم؟
مع ذلك، فإنّ مصادر مطلّعة على الموقف الفرنسي والأوروبي تنفي ضلوع فرنسا في قضيّة سلامة، لا سلباً ولا إيجاباً، إنطلاقاً من موقف فرنسي منكفئ عن الملفّ اللبناني بشقّيه المالي والسياسي.
في كلّ الأحوال، فإنّ الثابت في القضيّة، مهما كانت نتيجتها، أنّ الخناق اشتدّ حول رياض سلامة، الذي لم ينس في بيانه الاحتفاظ لنفسه “بحقّ الملاحقة القانونية بوجه جميع الذين يصرّون على نشر الشائعات المغرضة والإساءات التي تطالني شخصياً كما تسيء لسمعة لبنان المالية”.
في جميع الأحوال، ومهما كانت نتيجة التحقيق السويسري، فإنّ رياض سلامة تحوّل إلى مشتبه فيه، رسمياً، ومن قِبل النيابة العامة السويسرية.
هذه المرّة، ومهما جيّش سلامة جنوده وأتباعه والمستفيدين منه في السياسة والإعلام والمؤسّسات الدينية، لن يكون في مقدور أيّ منهم إقناع أحد بأنّ النائب العام السويسري يتصرّف بناءً على كيدية سياسية لبنانية اعتاد سلامة التلطّي خلفها كلّما أثيرت في وجهه قضيّة، ولو كانت مدعّمة بالأدلّة والوثائق، كما في الهندسات المالية على سبيل المثال لا الحصر.
*المصدر: جريدة الأخبار.
“محكمة” – الجمعة في 2021/1/22

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!