مقالات

الرّاحل المُدثّرُ بالشمائلِ العُليا القاضي سامي منصور/غالب غانم

القاضي الدكتور غالب غانم*:
على إيقاعِ الغياب، ومقامِ الأسى…
وفيما القضاءُ في حومة المعاناة، والدولةُ وسلطاتُها وسلاطينُها ومرافقُها وأركانُها يتأرجحون ما بينَ مُستنكفٍ ومُستخفٍّ ومُعتقَلٍ ومُتهافت… تُطلُّ الذكرى الأولى لغياب الحبيب سامي… الزميل والرفيق والأخ والنجيّ والشريك في حملِ الأعباء وردّ الغزوات على القضاء… تُطلّ ذكراه ومعها أطيابُها ومناقبُها ومآثرُها وأماثيلُها… ومعها صورةٌ لن ينساها الأصيحابُ والعارفون بأسباب الصّعود وأسرار التألُّق. صورةٌ تنعكس مراياها في حقولٍ وحقول: فهنا التزامٌ قضائيٌّ لا يُزعزعهُ التلويح بعُليا الأرائك والمواقع، وهناك أحكامٌ طافحةٌ بالعدل ومسوّرةٌ بالمناعةِ والقناعةِ والنّقاء، وهنالك ثمراتُ قلمٍ وكنوزٌ فقهيّة ثرّةٌ يواكبها حضورٌ في أرقى المنابر الجامعيّة والقانونية والفكريّة… وإلى هذه جميعاً شغفٌ بالحريّة لا يعلوهُ شغف، وعنادٌ ورفضٌ وصدٌّ لجمحات الهوى وشباكِ الإطراء والإغراء… ولُحمةُ هذه وسُداها نفسٌ راضيةٌ وادعةٌ متواضعةٌ اغتنت لا بالبهارج بل بفضائل الداخل، لا تتجبّر حتى لا تتفطّر، ولا تتغاوى حتى لا تتهاوى… إنّها صورتُك أنت، أيّها الراحلُ المدثَّر بالشمائلِ العُليا، الرئيس الدكتور سامي منصور.
قد يُقالُ إنّ ثمّةَ وجداناً يسري في مفاصل هذه الكلمات، ومنابضَ قلبٍ تنافسُ مقاييس العقل… وهذا ما لا أنكرهُ. ذلك أنّ الرفقةَ العزيزة دامتْ خمسةَ عقودٍ بالتّمام، منذ العام 1972 أوانَ اللّقاء في مباريات الدخول إلى معهد القضاء، مروراً بالامتحان الأقسى والأكبر وهو أن تمارس المهنة الرسوليّة في بلدٍ ما تزالُ ظروفه استثنائية ومحفوفةً بألفِ شرك وشرك… وصولاً إلى مرحلةِ التقاعد التي ملأناها كدّاً وعملاً لأنّنا منذورون للنّضال العلمي، ولأنّه لولا انغماسُنا بالعمل الحرِّ لتعرّضت كرامتنا للامتهان بعد أن تركنا القضاء وما في جُعبتنا، وقُلْ في جيوبنا، غيرُ أصفارٍ بأصفار، في بلدِ الأرقامِ السرياليّةِ الجنونيّة حيثُ تُقاسُ القيم “بالشطارة” لا بالجدارة، وبالحرام لا بالكفافِ والحلالِ والنّصاعةِ والزنابقِ البيضِ والأكفّ الطاهرة.
في خلال هذه السنواتِ الخمسين، وعلى امتدادِ الرّفقة والرحلة، كان العزيز سامي، منذ أيّام القضاء الأبكار في المعهد، إذا تحدّثَ يُشعلُ جدلاً رفيعَ المستوى، وإذا اعتزل يعودُ بجنى بحثيّ يُجانبُ القشورَ والسّطوح، وإذا تبارى يُجلّي، وإذا حاورَ يُسلِسُ ويمدّ جسوراً ويفتحُ آفاقاً. لا فجاجةَ في طبعه ولا استعلاء… ولا غيومَ داكنةً بل فضاءٌ صافٍ وأنسامُ حوارٍ تُنعشُ وتعرفُ كيف تتلقّى وتتلاقى، وتتلاقح وتتسامح.
وتتوالى المواقع القضائية والمسؤوليات، ويُتابع السّهم صعوده علوّاً وعمقاً، أجل: علوّاً وعمقاً… إذ كلّ صعودٍ في العلوّ وفي الاكتفاءِ برخاء المركز ومخمليّته وجاذبيّته ومظاهره الخدّاعة ينقلب هبوطاً إلى دركاتٍ سُفلى إلّمْ تحمهِ أعماقٌ ولم يحمهِ تتبّعٌ للجوهر وحفرٌ في رخامتهِ. هذا إنْ شئت أن تكون قاضياً بكامل اللّقب ودلالاته وأحمالهِ وموازينه. من تلك الأرومة، كان زميلنا سامي منصور. سهمٌ إلى العُلى وعينٌ على العمق. تحليقٌ لا يُلهيه تصفيق. صعودٌ بالجدارةِ كل الجدارة، واستنباطٌ للحقّ حتى ولو كان وراء الأسترة وفي كهوفِ المسائل.
جاء في رباعيّةٍ من رباعيّات “فوق الضباب” لوالدي عبدالله غانم:
“يستقيمُ القضاءُ في كلّ حكمٍ
لو تجولُ الرّؤى وراءَ السّتارِ.
وتجمعني به، غيرَ مرّة، أرقى المسؤوليات وأدقّها في مجلس القضاء الأعلى، والهيئة العامة لمحكمة التمييز، والمجلس العدلي، وإدارة معهد الدروس القضائية.
في هذه المضامير، على أمثالهِ يُراهنُ ويُستند، وبأمثالهِ تتوطّد الثقة، وتتمنّع الأنفس، وتتوجّه معركة استقلال القضاء إلى الأصواب الصحيحة، ويشيعُ الإنصاف، وتُطلق المبادرات، وتستحيلُ الأمنياتُ وقائع وحقائق. هاهم يظنّون أنّهم روّضوا روحَ المقاومة والتطلّع الأبيّ العالي لدى أبناء المهنةِ الرسوليّة هذه، يا عزيزنا سامي. فليعضُدْ قبسٌ من ذكراك وحُشاشةٌ من روحكَ الصامدين الذين لن يستسلموا مهما ضاق الخناقُ وعمّ النفاق… كنتَ، مثلي، بالغَ الحزن على ما يجري، وعلى المعتدّين والمعتدين والطمّاعين الذين لا يرون في القضاء إلّا امتداداً لسطوة، وتأميناً لمنفعة، وفرعاً من سلطة. فليكُن حزنك، وقهرُك، كما قبس ذكراك، نذيراً لهؤلاء وبشيراً لغدِ القضاء. رجوتكَ ألّا تهادنهم حتى بعد رحيلك.
ويا صديقي سامي!
كنّا، يوم يأخذنا الكلام إلى استذكار الجذور، والأرض الحبيبة، وأريافنا وضفافنا ومنها بسكنتا وبرج البراجنة، وأهلنا أبناء لبنان الطيّبين، نلتقي على موائد السّلام، ونشعر بأنّنا شركاء في كلّ ذريرةٍ من ذريراتِ تراباتنا، وكلّ حُبيبةٍ من حُبيبات النّدى في مرتفعاتنا والمنبسطات…
وعندما حفونا بكَ يومَ بلغت حقّك في التقاعد من مشقّةِ القضاء، أعطيتُ لكلمتي هذا العنوان المعبّر: “الرئيس سامي منصور يومَ تكريمه: من جبهةِ صنّين إلى برج البراجنة”.
ولعلّهُ رمز من رموز التلاقي الوطني الصّادق الذي كنتَ من دعاتهِ سليلَ كرامٍ شاركوا في بناء العمارةِ اللبنانية الواحدة المتلوّنةِ المقاصيرِ والشرفات، سواءٌ أكانت جباهاً أم أبراجاً أم أريافاً أم ضفافاً… أم معاقل إنسانيّة حرّة كم رجونا أن تتجاور وتتحاور، وأن تتكامل وتتآخى!.
وبعد… فإنّ في القلب والعقل مودّاتٍ لك وحولك، لا يتّسع لها مقامٌ منضبطٌ وأوانٌ خاطف… غير أنّي أختم بهذه الثلاثيّة، وفيها أقول:
لقد عرفتك، في البدايات، زميلاً فانتهيت إلفاً وخديناً.
وعرفتك قاضياً فانتهيتَ علماً وبيرقاً من بيارق القضاء.
وعرفتك واسع العلم، فانتهيت عالماً، ومعلّماً، في زمنٍ كثُر فيه المتعلّمون، وقلَّ المعلّمون.
* ألقى رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق والرئيس الأوّل لمحكمة التمييز شرفًا القاضي الدكتور غالب غانم هذه الكلمة في حفل تأبين “صديق العمر” القاضي الدكتور سامي منصور في الذكرى السنوية الأولى على رحيله، في “بيت المحامي” في بيروت وذلك يوم الإثنين الواقع فيه 22 أيّار 2023.
“محكمة” – الخميس في 2023/5/25

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!