مقالات

الوساطة إنعاش للعدالة/ محمّد شكر

محمّد شكر*:
الفهم الأشمل والأعمق لتطوّر الفكر الإنساني الإجتماعي يستدعي تسليط الضوء على تطوّر العلم بكلّيته.
ولمّا كان هذا التطوّر قد طاول فلسفة الحقّ والحاجات التي على أساسها يتعامل البشر بين بعضهم البعض فكان التفكير بعقلانية هو عصب الحياة الإجتماعية التي نعيشها اليوم.
فالتوجّه اليوم إلى أكثر الطرق عقلانية لحلّ كلّ ما هو صعب حلّه عن طريق الوسائل التقليدية التي لم تعد تجدي نفعاً، هو الصواب بعينه.
من هنا ولدت الوساطة لحلّ الخلافات بعد أن أمّنت لنفسها مكاناً في عقل كلّ إنسان عاقل واعٍ يدرك عواقب الأمور. فالإنسان يولد حاملاً معه غريزة البقاء المتجذّرة في نفسه والملازمة لها، هذه الغريزة التي هي المحرّك الأساسي الذي يكمن وراء كلّ خلاف ولولاها لما استمرّ.
تميّز مفهوم الوساطة بالعفوية والفطرة دون أن يكون مسنداً او مبنياً على أسس وتقنيات علمية إلى أن وضع العلم في أواخر الستينيات وبداية السبعينات، أطراً وتقنيات واضحة مثبتة من علم التواصل وعلم النفس والذكاء العلائقي ليجد قالباً ممنهجاً للوساطة مرتكزاً على مجموعة تقنيات ومبادئ ترعاها، لتجعل منها علماً يدرّب عليه ويكتسبه كلّ شخص أراد أن يبني جسور تواصل مع الآخر بدل بناء جدار وحواجز.
فإنّ اللجوء إلى الوساطة هو وسيلة تجعل من الطرفين أشخاصاً قد وصل بهم الحال إلى الوعي واحترام الذات التي يتصف بها كلّ شخص متحضّر ومسؤول عن كلّ ما يصدر منه لإيجاد السبل عبر التواصل البناء الذي يرمّم ويؤسّس لعلاقات مثالية في ما بعد.
فهي تمكّن الإنسان الواعي الذي يتقن ثقافة السلام والحوار البنّاء من التواصل السليم بهدف الوصول إلى حلول تحافظ على حقوقه وحاجاته وكلّ هذا ضمن إطار حضاري سلمي ليس له علاقة بالطرق القديمة المعروفة لدى الجميع مثل القضاء والتحكيم.
إذاً، إنّ الوساطة في تعريفها الأشمل هي طريقة سلمية وحبّية لحلّ الخلافات، تعطي الحقّ لأطراف نزاع حالي أو مستقبلي بالاتفاق على تعيين وسيط – حيادي، مستقلّ ومتخصّـص يساعدهم على التوصّل إلى حلّ يراعي القوانين الإلزاميـة والنظـام العـام، يضعونه بأنفسهم ويكرّسونه بموجـب عقـد[i] . فهي تقنيـة سـرية، سـريعة، تحافـظ علـى استمرارية العلاقات مستقبلاً كمـا أنّ اللجـوء إليهـا هـو فـعـل إرادي بحـت.
وممّا لا شكّ فيه، أنّ الوساطة ليست إلزامية من حيث الواجب القانوني، إنّما هي موجب أخلاقي طبيعي فيه ميل إلى السلم والتفاهم بين الأطراف، وأسلوب حياة يصل بمن يستعمله إلى برّ الأمان والحياة الفاضلة.
من هنا، وفي ظلّ التطوّرات التي طرأت على مفهوم الوساطة، والحاجة لترسيخ هذا المفهوم في عقول الأجيال القادمة، لا سيّما في ظلّ الإعتكافات القضائية التي شلّت مرفق العدالة، كانت مواكبتنا التشريعية لمفهوم الوساطة القضائية ضرورة، حيث أقرّ مجلس النوّاب القانون رقم 2022/286 الذي يرعى الإطار القانوني للوساطة والأسس المنظّمة لها، وذلك بفضل الجهود المتتابعة والجبارة التي كانت قد قامت بها الأستاذة منى حنا مؤسسة،(LAMAC ورئيسة المركز اللبناني للوساطة والتوفيق) والتي تسعى بشكل دائم إلى ترسيخ مفهوم الوساطة وإلى رفع إسم لبنان عالياً في هذا المجال على الساحة العالمية، لا سيّما من خلال المؤتمرات الدائمة المحلّية والدولية التي تشارك بها.
ويبقى السؤال كيف سيكون وقع هذا القانون على واقعنا العملي، وهل سيكون تطبيقه أمراً سهلاً أم أنّه سيؤدّي إلى خضّة في مرفق العدالة من الناحية التطبيقية، لاسيّما في ظلّ عدم صدور أيّ مرسوم تطبيقي للقانون المذكور حتّى تاريخه؟
هامش:
* محمد شكر، وسيط معتمد في تسوية المنازعات القضائية، ووسيط معتمد في تسوية المنازعات الإتفاقية، وعضو في المركز اللبناني للوساطة والتوفيق (LAMAC)، وماجستير في القانون الخاص، وماجستير في القانون الطبّي.
[i]حنا، منى، كتاب دليل في الوساطة طريقة بديلة لحلّ النزاعات، صفحة 27.
“محكمة” – السبت في 2022/11/5

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!