أبرز الأخبارعلم وخبرميديا

صلاحيات خارقة للمحقّق العدلي و”اتهامية بيروت” غير مختصة للنظر باستئناف قراراته/علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
فيما أغفل المشرّع سهوًا أو قصدًا، من نصوص قانوني أصول المحاكمات الجزائية والمدنية، إمكانية ردّ المحقّق العدلي، أو تحديد مرجع قضائي لاستئناف قراراته وتمييزها عند الإقتضاء في حال جنوحه نحو ارتكاب أخطاء قانونية عادية كانت أم فاضحة ومريبة، أو انحيازه وتخلّيه عن موضوعيته مثلما هو معمول به مع قاضي التحقيق على سبيل المثال، فإنّه جعل في المقابل، قراراته المدرجة تحت عنوان مذكّرات التوقيف أو الإحضار والتي يصدرها بناء لحاجة التحقيق، حاسمة لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة، وهذا ما يتنافى كلّيًا مع العدالة الحقّة، لا بل يعتبر انتهاكًا صارخًا للغاية المتوخّاة من هذه العدالة التي تبقى أكبر بكثير من القاضي نفسه.
فالمادة 362 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تجزم بأنّ قرارات المحقّق العدلي غير قابلة للمراجعة والتدقيق والتصويب من أيّة جهة قضائية أخرى، تعني أنّ المحقّق العدلي يملك صلاحيات خارقة تفوق ما هو معطى لقضاة آخرين ومحاكم أخرى، لا بل يدفع الإمعان فيها إلى وصفه بأنّه أقوى من القانون المولج هو نفسه بتنفيذه والعمل بمقتضاه، ذلك أنّ أيّ مذكّرة توقيف بصورة وجاهية أو غيابية، يسطّرها المحقّق العدلي، لا يمكن وقفها وفسخها أو إبطال مفعولها إلّا بقرار منه شخصيًا، وهو أمر يتعارض، ولا شكّ، مع كلّ المبادئ العامة والنصوص القانونية، إذ لا يعقل أن يتفرّد قاض بهذه الخصوصية إلى درجة التفلّت من الرقابة القضائية المُحْكمة من محكمة تعلوه درجة، فماذا لو أخطأ في مقاربة القانون وهو إنسان معرّض لاقتراف الخطأ وليس معصومًا ولا رسولًا ولا نبيًا؟ ألا يستحقّ هذا الخطأ إعادة نظر من محكمة أعلى منه كما هو وضع قاضي التحقيق حيث يمكن استئناف قراراته أمام الهيئة الإتهامية؟
لماذا لم يجعل المشرّع المجلس العدلي رقيبًا على عمل المحقّق العدلي ومنحه اختصاص البتّ في أيّ طلب ردّ يقدّم ضدّه، أو النظر في أيّ استئناف لأيّ قرار يصدر عنه، بمعنى أن يكون المرجع القضائي الصالح للبتّ في كلّ ما يتعلّق بالمحقّق العدلي سواء أكانت قراراته صحيحة أو خاطئة ولا تأتلف مع القوانين ما دام أنّ المحقّق العدلي يمهّد الطريق أمام المجلس العدلي لعقد المحاكمات في القرار الاتهامي الصادر عنه؟
وما دام المجلس العدلي يتألّف من قضاة في محكمة التمييز، فكان أولى بالمشرّع أن يمنح هذه المحكمة اختصاص النظر في كلّ ما يتعلّق بهذا المحقّق العدلي عندما يقدّم طلب لردّه أو طلب لنقل الدعوى للإرتياب المشروع، أو إصداره مذكّرات توقيف تندرج في إطار الإستنسابية وبالتالي الشخصانية، فإذا ما أخطأ هذا المحقّق العدلي في التقدير كانت ثمّة جهة قضائية قادرة على تصويب قراراته بالشكل القانوني المناسب.
وكيف يقبل المشرّع أن تكون مذكّرة التوقيف الوجاهية والغيابية ومذكّرة الإحضار المطرزة بنول المحقّق العدلي مبرمة؟ وماذا لو طال التحقيق سنوات وظلّ المحقّق معاندًا لأسباب غير مقنعة ويرشح منها التدخّل السياسي بشكل يفوق التصوّر والخيال، على إبقاء المدعى عليهم قيد التوقيف الإحتياطي وهم أبرياء من التهمة الموجّهة إليهم أو أنّ ما هو منسوب إليهم جنحة بسيطة كما هو حال الكثيرين من المدعى عليهم في جريمة انفجار مرفأ بيروت؟
وهل العدالة تفرض أن يحلّق المحقّق العدلي في سماء القضاء بمخالفات جوهرية للأصول القانونية من دون أيّ رادع، ومن دون أن يتمكّن أحد من إيقاظه من انسيابه إلى قعر ما يفعله ويوجب ملاحقته جزائيًا ومسلكيًا؟
ألم يخش المشرّع أن يؤدّي تتويج المحقّق العدلي بصلاحيات مطلقة إلى التحكّم برقاب الناس باستنسابية وتقدير خاص به يعود له وحده تفسيره وكأنّ قراراته مقدّسة ومنزلة، وإلّا ما معنى أنّها لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة؟ وأيّ قانون هو هذا الذي يزنّر المحقّق العدلي بصلاحيات خيالية لا يمكن الوقوف في وجهها حتّى ولو كانت تتناقض مع القوانين المرعية الإجراء؟
وماذا لو اتخذ المحقّق العدلي قرارًا تحت وطأة السكر، “معاذ الله!”، أو في لحظة تخلّ وغفلة أو ضغط سياسي أو شعبي لم يتمكّن من مقاومته والصمود في وجهه، أو نزولًا عند تهديد بملفّ شخصي يتعلّق به أو بأحد أفراد أسرته، فهل هذا يتساوى مع الحقّ المرتجى بإحلال العدالة مكانها الصحيح؟
كانت أحكام المجلس العدلي لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة بحسب المادة 366 أ.م.ج. قبل تعديلها في العام 2005، بمقتضى القانون رقم 711 تاريخ 2005/12/9 بحيث أصبحت تقبل الإعتراض وإعادة المحاكمة، فكيف تبقى قرارات المحقّق العدلي مغلّفة بعبارة “لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة” وقد تحمل في طيّاتها ما ينذر بعواقب وخيمة على العدالة والعمل القضائي وربّما على البلاد والعباد؟
مناسبة هذا الكلام عن فرادة المحقّق العدلي وخصوصيته النوعية في القضاء والتي تحتاج إلى تعديل ضروري لتصويب الأمور ولئلّا يبقى فوق القانون في حال المخالفة، ما صدر عن الهيئة الاتهامية في بيروت إثر استئناف المدعى عليه في ملفّ انفجار مرفأ بيروت محمّد المولى قرار المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار ردّ إخلاء سبيله وهو الموقوف بموجب مذكّرة توقيف وجاهية صدرت في أيلول 2020.
وكان البيطار قد عمد في أوقات مختلفة إلى إخلاء سبيل الضبّاط العسكريين التابعين للمؤسّسة العسكرية والأجهزة الأمنية والموقوفين من قبل سلفه المحقّق العدلي السابق القاضي فادي صوّان، بعد مطالبات سياسية فاقعة بهم، وأبقى على المدنيين قيد التوقيف الإحتياطي إرضاء لضغوط أهالي ضحايا وجرحى انفجار مواد ملتهبة موضوعة مع كمّية من مادة “نيترات الأمونيوم” يُسأل الجيش اللبناني أوّلًا وأخيرًا عن سبب إبقائها في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت منذ العام 2013 ولغاية انفجارها في العام 2020، من دون أن يبادر إلى نقلها إلى مكان آخر أكثر أمانًا والتخلّص منها كما فعل بكمّية من هذه النيترات عثر عليها في المرفأ بعد نحو شهر من وقوع الإنفجار في 4 آب 2020 وقام بواجبه وبما يمليه عليه القانون وأزالها وتصرّف بها بما لا تعود لها القدرة على الإنفجار وتهديد المجتمع.
وقد ارتأت الهيئة الاتهامية ردّ الإستئناف شكلًا لعدم اختصاصها النوعي والمكاني، ولانتفاء أيّ نصّ قانوني خاص يوليها مسألة صلاحية النظر في استئناف قرارات المحقّق العدلي كما هو الحال بالنسبة إلى قاضي التحقيق حيث يمكن مراجعتها بشأنها.
لكنّها اعتبرت في المقابل، أنّ مذكّرات التوقيف والإحضار هي التي تدخل ضمن مفهوم عدم إمكانية الطعن بها ولا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة إنسجامًا مع النصّ، بينما استئناف قرار ردّ إخلاء السبيل، وهو ليس مذكّرة، فيقبل الإستئناف وكأنّها تقول بشكل آخر أنّ عدم القبول محصور بمذكّرات التوقيف والإحضار ويقتصر عليهما ولا يطاول أيّ أمر آخر، وهذه المذكّرات هي جلّ ما يصدره ويتخذه المحقّق العدلي خلال انكبابه على التحقيق.
غير أنّ الهيئة الاتهامية لم تتمكّن من الفصل في مسألة قرار المحقّق العدلي بردّ إخلاء السبيل المطروح أمامها لعدم وجود دور قانوني لها في هذا المجال في ظلّ غياب النصّ القانوني الصريح.
وفي ضوء كلّ ما تقدّم، لم يعد هناك من مجال للتعامل مع المحقّق العدلي بشكل قانوني سوى اللجوء إلى محكمة التمييز الجزائية لتعيين المرجع عملًا بالمادة 335 أ.م.ج.
“محكمة” تنشر النصّ الكامل لقرار “اتهامية بيروت”:
إنّ الهيئة الاتهامية في بيروت المؤلّفة من القضاة، الرئيس ماهر شعيتو والمستشارين جوزف بو سليمان وبلال عدنان بدر،
لدى التدقيق والمذاكرة،
بعد الإطلاع،
حيث إنّ المدعى عليه محمّد راح المولى، وكيله المحامي خليل المولى، قدّم بتاريخ 2021/10/7، أمام هذه الهيئة استئنافًا طعنًا في القرار الصادر بتاريخ 2021/9/20 عن المحقّق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت، المنتهي إلى ردّ طلب إخلاء سبيله، والذي يطلب بموجب قبول استئنافه شكلًا وأساسًا وفسخ القرار المستأنف ورؤية الملفّ وإصدار القرار بإخلاء سبيله للأسباب التي أوردها و/أو لأيّ سبب تراه هذه الهيئة عفوًا،
وأدلى، أنّ المادة /362/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية، اعتبرت أنّ قرارات المحقّق العدلي في هذا الخصوص (أيّ القرارات المتعلّقة بالمذكّرات) هي التي لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة، وأنّه في غياب النصّ الخاص فإنّ النصّ العام هو الذي يطبّق ممّا يدلّ على أنّ قرارات المحقّق العدلي لجهة باقي القرارات غير المتعلّقة بالمذكّرات يطبّق عليها مواد القانون العام أيّ قانون أصول المحاكمات الجزائية المتعلّقة بالمحقّق غير العدلي أيّ قاضي التحقيق، وأنّه لو أراد المشرّع عدم إعطاء الحقّ بالطعن استئنافًا بقرار ردّ طلب إخلاء السبيل لكان نصّ عليه أسوة بما فعله لجهة عدم الطعن في المذكّرات التي يصدرها المحقّق العدلي، وأنّ الهيئة الاتهامية في بيروت هي المرجع الصالح للنظر بالإستئناف،
وأنّ النيابة العامة التمييزية أبدت رأيها بتاريخ 2021/10/11
في الشكل:
وحيث إنّ البحث في الطلب الراهن، يستلزم بداية بحثًا في مدى صلاحية الهيئة الاتهامية في بيروت للنظر في طلبات طعن في قرار ردّ طلب تخلية سبيل صادر عن محقّق عدلي،
وحيث إنّ بحث النقطة تلك، يوجب عرض النصوص التي ترعى عمل المحقّق العدلي وتلك التي ترعى عمل الهيئة الاتهامية،
وحيث إنّ قانون أصول المحاكمات الجزائية نظّم عمل المحقّق العدلي في الباب الخامس من القسم السادس منه تحت عنوان “المجلس العدلي” من خلال المواد من 355 إلى 367،
وحيث من خلال استعراض نصوص المواد تلك، يتبدّى أنّ المشرّع أحال على المجلس العدلي بناء على مرسوم يتخذّ في مجلس الوزراء، جرائم محدّدة، للنظر فيها، وأورد أنّ التحقيق يتوّلاه قاضٍ يعيّنه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى، أسماه “المحقّق العدلي”، على أن يتولّى النائب العام التمييزي أو من ينيبه عنه من المحامين العامين، مهام تحريك الدعوى العامة واستعمالها، وقد أوردت المادة 362 أ.م.ج. أنّ المحقّق العدلي يُصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق، وأنّ قراراته في هذا الخصوص – أيّ في ما خصّ تلك المذكّرات – لا تقبل أيّ طريق من طرق المراجعة، في حين أوردت المادة 363 أنّ المحقّق العدلي يُطبّق الأصول المتبعة لدى قاضي التحقيق، وأنّه بعد اكتمال التحقيقات وإبداء النيابة العامة التمييزية مطالعتها في الأساس، يُصدر قراره إمّا بمنع المحاكمة عن المدعى عليه او إتهامه وإحالته على المجلس العدلي، على أن تراعى في قرار الاتهام الصادر، الأصول التي تُنظّم وضع مضبطة الاتهام من قبل الهيئة الاتهامية، وعلى أن يُصدر مذكّرة إلقاء قبض في حقّ المتهم،
وحيث يتبدّى من النصوص المبسوطة أعلاه، أنّ المشرّع قد حصر صراحة ما هو غير قابل لأيّ طريق من طرق المراجعة من قرارات المحقّق العدلي، بالمذكّرات التي يصدرها الأخير، دون أن يشمل، أيّ المشرّع، قرار إخلاء السبيل من بينها، سواء في نصّ المادة /362/ المذكورة أو في أيّ نصّ آخر،
هذا من نحو أوّل،
وحيث من نحو ثان، إنّ الهيئات الاتهامية بشكل عام، والهيئة الاتهامية في بيروت بشكل خاص، وبالإستناد إلى نصّ المادة /128/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية، مرجع استئنافي للنظر في قرارات قضاة التحقيق، بشكل حصري كما مرجع استئنافي لكلّ ما يرد عليه نصّ خاص بهذا الخصوص،
وحيث من خلال تخصيص باب خاص بالمحقّق العدلي، يظهر أنّ نيّة المشرّع اتجهت إلى خلق كيان قائم بذاته لقاضٍ يعيّنه وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى للنظر في قضيّة محدّدة من تلك المقرّر إحالتها على المجلس العدلي، سُميّ “محقّق عدلي” لا قاضي تحقيق، روعي في عمله الأصول المتبعة لدى قاضي التحقيق،
وحيث، بعد التثبّت من حصر المشرّع القرارات غير القابلة لأيّ طريق من طرق المراجعة، بالمذكّرات، وبعد تأكيد أنّ المحقّق العدلي كيان قائم بذاته، يكون السؤال هل أنّ الهيئة الاتهامية في بيروت هي المرجع الصالح للنظر باستئناف قرار المحقّق العدلي بالمتعلّق بإخلاء السبيل؟
وحيث رغم ما تقدّم وفي حال التسليم بأنّ الهيئة الاتهامية هي صاحبة اختصاص في البتّ بالطعن الراهن، يبقى من المفروض، تحديد أيّ هيئة اتهامية صاحبة الإختصاص المكاني للنظر في مثل هكذا طعن، سيّما وأنّ النصوص التي ترعى عمل المحقّق العدلي لم تورد على الإطلاق تحديدًا لمركز ممارسته عمله، خلافًا للمجلس العدلي الذي ذكرت المادة 358 أ.م.ج. أنّه يعقد جلساته في قصر العدل في بيروت أو في مكان وقوع الجريمة عند الإقتضاء أو في أيّ مكان يحدّده رئيسه إذا تعذّر انعقاده في قصر العدل في بيروت، ولا يمكن اعتبار مركز المحقّق العدلي مشمولًا بالنصّ المذكور لعدم إيراد هذا الأمر بشكل صريح، فنكون عندها أمام حالة يمكن اعتبار جميع الهيئات الاتهامية في لبنان مختصة للنظر في الطعون المقدّمة في قرارات المحقّق العدلي، خاصة، مثلًا، في حال تعدّد المدعى عليهم وإقامة كلّ منهم في محافظة مختلفة، ما يولي الهيئة الاتهامية في المحافظة تلك الصلاحية المكانية اللازمة عملًا بالمادة 9 أ.م.ج.، وهذا أمر لا يمكن القبول به لا منطقًا ولا قانوناً، خاصة وأنّه لم يرد نصّ خاص، يولي الهيئة الاتهامية في بيروت صلاحية النظر في استئناف قرارات المحقّق العدلي، كما ورد بخصوص قاضي التحقيق العسكري لناحية بعض القرارات،
وحيث تبعًا لعدم ورود نصّ محدّد يولي الهيئة الاتهامية في بيروت الإختصاص النوعي والمكاني، لا تكون هذه الهيئة هي المرجع الصالح للنظر باستئناف قرار ردّ طلب إخلاء السبيل، الأمر الذي يفضي إلى ردّ استئناف المدعى عليه لهذه الناحية،
لـذلـك
تقرّر بالإتفاق: ردّ الإستئناف شكلًا وإبلاغ من يلزم.
قرارًا صدر في غرفة المذاكرة في بيروت بتاريخ 2021/10/11.
“محكمة” – الخيس في 2021/10/14

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!