أبحاث ودراسات

الدور الحاسم لحقوق الإنسان في وقف الاعتداء على حريّة معتقلي المرفأ والمحامية جيهان أبو عيد/محمد مغربي

المحامي الدكتور محمد مغربي:
من الصعوبة بمكان مناقشة أي موضوع يتعلّق بملف انفجار 4 آب لكثرة الآراء التي نقلتها وسائل الاعلام الى الجمهور وتضاربها في شأنه، وحالة الاصطفافات الشخصية والسياسية بل والطائفية حوله التي تساهم في تسويق افتراضات لا أساس لها وتحويلها الى حقائق مزعومة.
وقد وصل الامر بالبعض الى استنكار ما تمّ من اطلاق سراح المعتقلين بعد احتجازهم دون سبب مشروع منذ ما يناهز السنتين ونصف السنة. وهو ما يشبه تحرير المحامية الاستاذة جيهان ابو عيد التي بقيت قيد حجز الحرية ما يناهز السنة.
ذلك أنّ ما تمّ في كل من الحالتين من اطلاق المعتقلين وتحرير المحتجزة حريتها لم يستند إلى نصّ قانوني لبناني، بل إلى حقوق الانسان المعترف بها دولياً والتي تمّ في لبنان ابرام المعاهدات الضامنة لها. وهو ما يؤلف سابقة لا مثيل لها اوجبت كتابة هذه السطور.
أولاً: الأحكام التي تمنع الاعتداء على الحرية وفقاً لحقوق الانسان وفي القانون اللبناني:
(أ) في حقوق الانسان المعترف بها دولياً:
تم في لبنان إبرام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية كمعاهدتين دوليتين.
فتمنع المادة 9 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان القبض على أيّ انسان او حجزه او نفيه تعسفاً. وتعتبر المادة 11 منه كل شخص تنسب اليه جريمة بريئاً الى ان تثبت ادانته.
أمّا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المنبثق عن الاعلان، فإنه يتضمن في مادته التاسعة تفاصيل اكثر للضمانات لمنع الاعتداء على الحرية على النحو التالي:
فقد كرست الفقرة (1) من المادة المذكورة حق كل انسان في الحرية والامان الذاتي. فلا يجوز ان يعتقل او يحتجز اي انسان تعسفاً. ولا يجوز حرمان اي انسان من حريته الا على الاسس وبموجب الاجراءات التي يحددها القانون.
وتوجب الفقرة (3) منها ان يتم احضار المقبوض عليه او المحتجز في اسرع وقت امام المحكمة وان تتم محاكمته خلال فترة معقولة او ان يطلق حراً.
ونصّت الفقرة (4) منها على حقّ كلّ إنسان تم حرمانه من حريته بالاعتقال او الاحتجاز ان يباشر اجراءات قانونية امام محكمة لتقرر دون تأخير ما إذا كان احتجازه قانونياً وان تقرر اطلاقه إذا لم يكن احتجازه قانونياً.
أما الفقرة (5) والاخيرة منها فإنها تكرس الحق في التعويض لضحايا الاعتقال او الاحتجاز المخالف للقانون.
(ب) في القانون اللبناني:
يمنع قانون أصول المحاكمات الجزائية (أ.م.ج.) إحتجاز أيّ إنسان في مرحلة التحقيق الأوّلى إلّا على ذمّة هذا التحقيق ومن أجل إنجازه بإشراف النيابة العامة وبقرار خطّي معلّل من النائب العام يفيد التثبّت من مبرّراته وذلك لمدّة لا تتجاوز أربعة أيّام كحدّ أقصى. فإذا تجاوز الاحتجاز المدّة التي استغرقها التحقيق الأوّلي أو حدّ الأربعة أيّام فإنّ المادة 48 أ.م.ج. توجب ملاحقة الضابط العدلي بجناية حجز الحرّية عملاً بالمادة 367 من قانون العقوبات. وهذا نصها:” المادة 367 ــــــ كل موظف اوقف او حبس شخصاً في غير الحالات التي ينص عليها القانون يعاقب بالاشغال الشاقة المؤقتة”.
وتشمل كلمة “موظف” كلّ من هو في الادارات العامة والقضاء. وهذا هو نصّ المادة 350 من قانون العقوبات التي عرّفت من هو الموظف: “يعد موظفاً بالمعنى المقصود في هذا الباب كل موظف في الادارات والمؤسسات العامة والبلديات والجيش والقضاء وكل عامل او مستخدم في الدولة وكلّ شخص عيّن أو انتخب لأداء خدمة عامة ببدل أو بغير بدل”.
وتضمّن قانون العقوبات في فصله المتعلّق بالجرائم الواقعة على الحرية والشرف أحكاماً منها:
” المادة 569 ـ من حرم آخر حريته الشخصية بالخطف او بأي وسائل اخرى عوقب بالاشغال الشاقة المؤقتة. ويعاقب الفاعل بالاشغال الشاقة المؤبدة في كل من الحالات التالية:
1 – إذا تجاوزت مدّة حرمان الحرّية الشهر.
2 – إذا أنزل بمن حرمت حرّيته تعذيب جسدي أو معنوي…”
وأكثر من ذلك: فإنّ المادة 403 أ.م.ج. أوجبت على النائب العام والقاضي المنفرد إطلاق سراح كلّ من تمّ احتجازه بصورة غير مشروعة. وهذا نصّها:” المادة 403 ــ على كل من النائب العام الاستئنافي او المالي ومن القاضي المنفرد الجزائي، كل ضمن حدود اختصاصه، عندما يبلغه خبر توقيف احد الاشخاص بصورة غير مشروعة ان يطلق سراحه بعد ان يتحقق من عدم مشروعية احتجازه…”.
فمتى يكون الاحتجاز مشروعاً؟
يكون الاحتجاز مشروعاً خلال فترة التحقيق الاولي الذي تتولاه الضابطة العدلية بإشراف النيابة العامة كما جاء أعلاه وذلك بأمر خطّي معلّل من النائب العام ما دام ملف التحقيق خلال تلك المدّة لم يتم اختتامه ولمدّة أقصاها أربعة أيّام. فإذا اختتم التحقيق لا يعود هناك أيّ أساس قانوني لاستمرار الاحتجاز.
وتعطي المادة 107 أ.م.ج. السلطة لقاضي التحقيق في إصدار قرار توقيف بعد استجواب المدعى عليه بشرط توافر الشروط التالية:
” – بعد أن يستجوﹺب قاضي التحقيق المدعى عليه، ويستطلع رأي النيابة العامة، يمكنه أن يصدر قراراً بتوقيفه شرط أن يكون الجرم المسند إليه معاقباً عليه بالحبس اكثر من سنة أو أن يكون قد حكم عليه قبلاً بعقوبة جنائية او بالحبس أكثر من ثلاثة أشهر دون وقف التنفيذ.
– يجب ان يكون قرار التوقيف معللاً وان يبين فيه قاضي التحقيق الأسباب الواقعية والمادية التي اعتمدها لإصدار قراره على ان يكون التوقيف الاحتياطي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على أدلة الإثبات أو المعالم المادية للجريمة أو للحيلولة دون ممارسة الإكراه على الشهود أو على المجني عليهم أو لمنع المدعى عليه من اجراء اتصال بشركائه في الجريمة أو المتدخلين فيها أو المحرضين عليها من او ان يكون الغرض من التوقيف حماية المدعى عليه نفسه او وضع حد لمفعول الجريمة أو الرغبة في اتقاء تجددها أو منع المدعى عليه من الفرار أو تجنيب النظام العام أي خلل ناجم عن الجريمة.
– يبلغ المدعى عليه كلاً من مذكرة الاحضار وقرار التوقيف، ولو كان موقوفاً بجريمة اخرى، عند تنفيذ اي منهما في حقه ويترك له صورة عن وثيقة تبليغه.
– إذا لم تراع الأصول المحددة آنفاً لمذكرة الإحضار وقرار التوقيف فيغرم الكاتب بمبلغ مليوني ليرة على الاكثر بقرار من المحكمة التي يدلي أمامها بالمخالفة.
– للمدعى عليه أن يستأنف القرار القاضي بتوقيفه خلال أربع وعشرين ساعة من تاريخ إبلاغه إياه.
– ان استئناف القرار لا يوقف تنفيذه.
– اذا كان المدعى عليه متوارياً عن الأنظار فلقاضي التحقيق أن يصدر في حقه قراراً معللاً بتوقيفه غيابيًا”. (التسطير مضاف).
وليس هناك من مذكرة توقيف مستقلة عن قرار التوقيف أو تحلّ محلّه. فإنّ المذكّرة ما هي إلّا وثيقة تبليغ للجهات المعنية لتنفيذ قرار التوقيف. وعندما لا يكون هناك من قرار توقيف مستوف للشروط القانونية وأهمّها التعليل، فلا يجوز أن تكون هناك من مذكّرة وتعتبر المذكّرة عملاً غير مشروع ويؤلّف تنفيذها جناية الحرمان من الحرّية وجناية الاعتداء عليها.
ثانياً: ما تمّ تطبيقه في حالة المعتقلين بملف انفجار 4 آب:
في 2023/1/25 صدر عن النائب العام لدى محكمة التمييز قرار بإطلاق سراح الموقوفين كافة بقضية انفجار مرفأ بيروت بالاستناد الى حقوق الانسان التي يكرسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 9 منه فقرتيها الاولى والثالثة.
وكان المذكورون قد تمّ احتجازهم تعسفاً دون قرارات توقيف على الاطلاق. ولم يتمّ إبلاغهم أيّ قرار توقيف. ولا وجود لمثل هذه القرارات. وتقدّم معظمهم أو كلّهم بطلبات إخلاء سبيل متعدّدة إلى كلّ من قاضيي التحقيق العدليين اللذين تعاقبا على الملف فتمّ ردّها دون إبلاغ المحتجزين قرارات الردّ.
وعلى سبيل المثال، كما قال لي الزميل وكيل المحجوزة حرّيته تعسفاً السيّد محمد المولى، فإنّ هذا الاخير تقدّم بخمسة طلبات إخلاء سبيل، ثلاثة منها إلى قاضي التحقيق العدلي الذي تمّ تعيينه أوّلاً ثمّ بطلبين إلى قاضي التحقيق العدلي الذي تلاه، وقد تمّ ردّ كلّ تلك الطلبات دون تبليغه أو تبليغ موكّله قرارات الردّ.
ومن الثابت أنّ ملفّ التحقيق العدلي فارغ تماماً بالنسبة للذين تمّ إطلاقهم ولا توجد ذرّة دليل على أنّ لهم ضلعاً في فعل انفجار 4 آب، ولا ادعاء على أيّ منهم بهذا الفعل.
ثالثاً: ما تمّ تطبيقه في حالة المحامية جيهان أبو عيد:
تمّ تحرير المحامية الاستاذة جيهان ابو عيد بقرار صدر عن القاضي المنفرد في زغرتا ــ اهدن في 2022/12/19عملاً بالمادة 9 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تحظّر اعتقال أيّ إنسان أو حجزه تعسّفاً.
وكانت الأستاذة جيهان قد اختطفت من منزلها قبل بزوغ فجر يوم الأربعاء في 2022/1/12 بعد أن تمّ اقتحامه بطريق الكسر والخلع ونُقلت مكبّلة إلى مركز الشرطة القضائية في طرابلس. ولمّا تمسكت بحقوقها عملاً بالمادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة وبعد أقلّ من ساعتين تمّ اختتام التحقيق. وأدخلت مكبّلة إلى نظارة قصر العدل بموجب أمر خطّي إلى آمر تلك النظارة صادر عن محام عام استئنافي في طرابلس، لا علاقة له بالملفّ الذي اختتم التحقيق فيه، باحتجازها في تلك النظارة لأجل غير مسمّى. ثمّ ويوم الثلاثاء في 2022/1/18 قام أحد قضاة التحقيق بإصدار مذكّرة توقيف غيابية لها وذلك مع علمه الأكيد بوجود الأستاذة جيهان قيد الإحتجاز في النظارة، وبعد أن زارها فيها، متجاوزاً الشرطين: شرط قرار التوقيف المعلّل وشرط أن يكون المطلوب توقيفه متوارياً عن الأنظار. فتكون المحامية جيهان ضحية جنايتي الاعتداء على الحرّية والحرمان منها في آن معاً.
ملاحظة أخيرة:
كرّس القانون أصول المحاكمات المدنية في المادة 2 منه قاعدة تسلسل القواعد ومنها أن أحكام المعاهدات الدولية، مثل الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تتقدّم في مجال التطبيق على أحكام القانون اللبناني. كما نصّت مقدّمة الدستور على الإلتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وباحترام هذه القواعد كما والاحكام المنوّه عنها لقانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية، وتطبيقها بكلّ أمانة على كلّ من ينتهكها دون استثناء وكائناً من كان، فإنّه يوضع حدّ لحالات الإعتقال التعسفي والإعتداء على الحرّية التي لا بدّ أنّه تعرّض لها عشرات الآلاف من اللبنانيين.
“محكمة” – الأربعاء في 2023/2/1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!