مقالات

جرائمُ المصارف والسُّلطات بحقّ الوطن والمواطنين/خليل وفارس زعتر

المحاميان خليل وفارس زعتر*:
من بديهيَّات المنطقِ السليم وأبسطِ المبادئ الأخلاقّية، التي لا يمكن أن يختلف بشأنها إثنان من العاملين في الحقل القانوني، هي أنّ وضعَ المصارف يدها على الودائع لديها، سيّما منها تلك التي هي بالعملات الصعبة وأخصّها الدولار الأميركي، والطريقة التي تتعامل فيها مع المودعين بمباركة صريحة من مصرف لبنان المعبّر عنها بتعاميمه في هذا الشأن، إنما تُشكّل إحدى أكبر الجرائم المنظّمة المرتكبة بحقّ وطنٍ وشعب بأكمله ومستقبل أجياله الآتية.
هذه الجريمة الكبرى تتألَّف من اجتماع جرائم تنطبقُ عليها أوصافُ جرائم إساءة الأمانة والإحتيال والسَّرقة، وتُشَكِّلُ، بالإضافة إلى الجرائم الجزائية المذكورة، إنتهاكاً لأحكام الدّستور الصريحة في الفقرة (و) من مقدّمته التي تنصّ على أنّ “النظام الاقتصادي حرّ يكفلُ المبادرة الفردّية والملكيّة الخاصة” والمادة 15 منه التي تنصّ على أنّ “الملكيّة في حمى القانون فلا يجوز أن ينزع عن أحد ملكه إلاّ لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون وبعد تعويضه منه تعويضاً عادلاً”.
فالمصارفُ، بوضعها يدَ غاصب على الودائع، وبإخضاعها المودع للقبول باستيفاء جزءٍ ضئيلٍ جدّاً من ودائعه شهرياً بالعملة الوطنية المتهاوية لا بعملةِ الإيداع، وبسعر صرف أدنى بكثير من سعر صرف الدولار في السّوق لدى الصَّرَّافين، إنّما تقوم بالتعدّي الفادح ليس فقط على حقوق ملكيّة مقدّسة، بل على ما هو أكثر أهميّة وقدسيّة من النقود؛ إنّها تقوم بالتعّدي على حرّية المواطنين، ولا تقتنص فقط جزءاً كبيراً من أموالهم بل تقتنص حيّزاً كبيراً من أوقاتهم وراحتهم وطمأنينتهم، أيّ أنّها تقتطع جزءاً من حياتهم؛ وتقيّدهم بقيود تمنع عليهم بواسطتها التنقّل والسّفر، أو التحرّك داخل البلد، أو العيش الكريم، أو دفع أقساط أولادهم المدرسيّة أو التخطيط لمستقبل اقتصادي وحياتي كريم، وسوى ذلك من مجالات النشاط الإنساني. فهي إلى جانب تقييدهم بهذه القيود التي لا ينصّ عليها دستور أو قانون إنما تخالفُ النصوص الدستورية والقانونية والمبادئ الأخلاقية والقانونية البديهية العامة وتُصادر أحلامهم، وتسخرُ من أولادهم، وتتصرّف خارج القوانين والأنظمة التي تدوسها باجتراءٍ معيب، وتمارس ديكتاتورية مطلقة من دون وازع أو رادع.
توجد رابطة سببيّة أكيدة، لا يمكن تجاهلها، بين امتناع المصارف عن الإفراج عن الودائع ووقف التسهيلات المصرفية بالعملات الأجنبية وبين ارتفاع سعر صرف الدولار إزاء الليرة اللبنانية. إنّ الكارثة البادية للعيان التي يتسبّب بها هذا الأمر على الحركة الاقتصادية عامة والرواتب والأجور خاصة، ومنها رواتب القضاة والقوى الأمنية بمختلف فروعها والجيش والطواقم التعليمية في المدارس والجامعات، ومختلف القطاعات والمؤسّسات العامة والخاصة، وتتداعياته على الأخلاق واستفحال الرُشى والفساد وتقوية تحكُّم من يملكون الثروات على مقدّرات البلاد وسياساتها ومستقبلها، إنّما هي أمورٌ لا يمكن تجاهلها إطلاقاً.
إنَّ السُّلطة، بسكوتها المتمادي عبر الأشهر الماضية عن هذه الجرائم الكبرى إنّما تثبتُ أنّها في الواقع متواطئة ومشتركة في هذه الجرائم.
فالدولةُ، بدستورها وقوانينها وأجهزتها جميعها، لم توجد إلاَّ لحماية الفرد في حقوقه وحرّياته. وهي ملزمة بتطبيق الدستور والقانون والأنظمة المشروعة، وبحماية الحقوق والحرّيات. ولا تتمتّع بأيّ سلطة استنسابية في هذا الشأن. فأين هي السلطات التي تقوم بالحماية والمحافظة على الدستور والقوانين وحقوق الناس وحرّياتهم. إنّ موقف المسؤولين وسكوتهم المدوّي على هذه الجرائم خيانة بحقّ هذا الشعب وهذا الوطن، لا يمكنُ ولا يجوز السكوت عنها. وإلاّ أثبتنا أكثر ممّا أثبتنا حتّى الآن أنّنا شعب متخاذل ذليل يستحقّ أن يُسحق بنعال منظومة سياسية فاسدة.
هذه المنظومة المعروفة “إنجازاتها” أصلاً أظهرت حقيقتها بضوءٍ كاشف، في الأشهر الأخيرة. عبر المحطّات التاريخية الكبرى التالية:
المحطّة الأولى هي يوم 17 تشرين الأوّل 2019، يوم الإنتفاضة الشعبية العفويّة العارمة العابرة للطوائف والمناطق والأحزاب هذه الإنتفاضة العفوية الراقية التي يمكن مفاخرة شعوب العالم كلّه بسلميَّتها، وحضاريَّتها، وبالوعي المذهل لدى مجموعة نخبويّة من الشُّبان والشَّابات، وخصوصاً بمشهد الشابات وهنّ ينظِّفن الشَّوارع ويكنسنها وينتظمنَ في صفوف المتظاهرين الأمامية. صرخةُ الوجع هذه نتيجة الاستفاقة على واقع بلدٍ منهوب، مشلّع، ونظام طائفيّ فاسد، وآفاق مستقبل مسدودة، وإحباط لا حدود له، وفقر مدقع، وفقراء يئنُّون جوعاً فلا يسمعهم ولا يعبأ بهم من يَتَسَلَّمون زمام السلطات، الذين يقيمون في القصور الفاخرة ويتنعّمون مع أسرهم بثروات لا يمكن تبرير كينونتها بأيِّ أعمالٍ مشروعة.
المحطَّة الثانية هي يوم عيد الإستقلال في 22 تشرين الثاني 2019، حيث انكفأ ممثّلوا السلطات في ثكنة يشاهدون عرضاً عسكرياً رمزياً بعيداً عن الشعب الذي احتفل، ولأوَّل مرّة، بمفرده في ساحة الشهداء بعرضِ فرقٍ مدنيّة تُمثِّل كافة القطاعات العاملة والصناعية والمهنية بطريقة حضارية راقية لا مثيل لها. مشهدّية عيد الاستقلال هذه تثبت أنّ مُتَسلِّمي زمام السلطة باسم هذا الشعب لا يمثّلون هذا الشعب، وهم يعرفون أو يستشعرون في قراراتهم أنّهم في وادٍ والشعب في وادٍ آخر.
المحطّة الثالثة، هي فترة الأشهر التي استغرقها تأليف الحكومة الحالية عقب استقالة رئيس مجلس الوزراء السابق سعد الحريري في 29 تشرين الأوّل 2019. في هذه الفترة برز العنفُ وتعاظم الشَّغب، وأطلّت الطائفية بقطعان ذئابها المفترسة. هذا يؤكّد مرّة جديدة على ارتباط النظام الطائفي، بالمظاهر الميليشوية الطَّائفيّة، وباستمرار أسياده في حكم البلاد عبر شبكة محكمة من القوانين والأنظمة والممارسات الطائفية عبر أحزاب ومؤسّسات استمدّت مبرر وجودها وديمومتها من هذا النظام بالذات الذي لا مصلحة لها إلاّ باستمراره بطريقةٍ أو بأخرى.
المحطّة الرابعة، هي محطّة جلسات مجلس النوّاب في قصر الأونيسكو، وهي جلسات محزنة لم يصدر عنها ما يُطَمئن الناس إلى أنّ أزمات الوطن ومعضلاته هي قيد المعالجة الحكيمة الصحيحة. فهذا المجلس المتكوّن من إنتخابات جَرَتْ على أساس قانون انتخاب مسخ مناقض للديموقراطية الصحيحة لا يعبّر بدوره عن الإرادة الشعبية، ولا يمثّل المواطنين تمثيلاً صحيحاً!
منذ 17 تشرين الأوّل 2019 وحتّى الآن قرأنا وسمعنا الكثير من تصاريح وخطب المسؤولين، وجميعها تَعِدُ بمكافحة الفساد، والمحاسبة، واسترداد الأموال المنهوبة، والحفاظ على حقوق المودعين. لكنَّ الممارسة العملية لا تُطمئن. فالذي يَعِدُ بمكافحة الفساد لا يمكن أن يمارسه بالسكوت على ممارسة تجاوزات المصارف في تعدِّيها على الودائع بهذا الشكل اللاقانوني واللاأخلاقي المكشوف (المشهود- إذ نحنُ نعاين جرائم مشهودة على مساحة الوطن وبحق المواطنين المودعين الشرفاء) على مدى أشهر متعاقبة؛ ناهيك عن أنّ المواطن متروك في ظلمة دامسة، يتخبّط في محيطٍ من اللاإستقرار، يعصف به القلق، ويحارُ كيف يؤمن قوت يومه، ولا يوجد مسؤولٌ واحد يخرجُ على الناس فيضيء بوضوح وشفافية وأمانة وإخلاص حقيقة ما حصل، ويقدّم حلولاً عاجلة لمعالجة وضعٍ متدهور خطر على جميع الصعد.
وباختصار كليّ، يجب محاسبة وملاحقة كلّ من كان مسؤولاً عن وصول الوضع المصرفي والمالي والاقتصادي، وحتى الأمني والسياسي في البلاد، إلى الحالة التي وصلت إليها. والمحاسبة ليست صعبة على الشرفاء الذين يتمتعون بصفات أخلاقية وشجاعة وتعالٍ عن الأنانيّات والعصبيّات الحزبيّة والطائفيّة والمذهبيّة والعشائريّة والمناطقيّة، وكلّ أنواع عصبيّات التخلّف والجهل. وإنَّ أيَّ عامل في الحقل القانوني، لديه الخبرة الكافية، يعرف كيف يمكن تَتَبُّع خيوط الفساد بكافة صوره ووجوهه، وكيف يُساق المسؤولون عنه إلى القضاء، ويحكم عليهم باستعادة المنهوب من الأموال والتعويض على المتضررين؛ وليسَ هذا فقط، بل أيضاً معاقبة مرتكبي هذه الجرائم مهما عَلَتْ مراتبهم، وتنوعت صفاتهم، لأنّ المسؤولية أكبر والمحاسبة أشدُّ على من تبوأ مراكز المسؤولية فتنكر لها وعبث بحياة الناس ومستقبل شعبٍ بأكمله بات مهدّداً في وجوده، وقد تبتلعه الهجرة الجماعية البشرية والتشرّد فيتلاشى من هذه الأرض الجميلة المقدّسة.
*المصدر: النهار.
“محكمة” – الإثنين في 2020/7/6

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!