أبرز الأخبارعلم وخبرميديا

خاص”محكمة”.. “إتهامية بيروت”: الإتجار بالبشر يقوم على الإستغلال لاعتباره جناية وإلاّ فالدفع إلى التسوّل هو جنحة/ علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
تتكاثر أساليب الإتجار بالبشر في العالم المتناحر على ارتكاب الموبقات وشتّى أنواع الفساد، مع تراجع منسوب الإنسانية لمصلحة الجشع الآخذ في التفاقم على غير صعيد، وذلك نتيجة تبدّل معالم النظرة إلى الحياة، وهو أمر لا يبشّر بالخير، فالإنسانية لا تتساوى مع المادية ولن تكون هذه الأخيرة شبيهة بالأولى مهما بالغت في سحرها، وهذا ما يحتمّ الإفراط في الإتجار بالبشر في سبيل الوصول إلى المال والإثراء بطرائق ملتوية، وتحسين معيشة فرد على حساب حياة فرد آخر من دون الإلتفات إلى الإعتبارات الأخلاقية.
ولكي يتحقّق جرم الإتجار بالبشر، لا بدّ من توافر عنصر أساسي فيه هو الإستغلال، ووجود نيّة الإستفادة المادية من الآخر عن طريق طرحه شخصياً للبيع وهو ما يعرف بالرقّ والعبودية الضاربين بمعناهما اللإنساني عميقاً في تاريخ البشرية، أو ممارسة الدعارة، أو بالأحرى إجبار المرأة على بيع جسدها والإستفادة من هذه التجارة المربحة خلافاً لمعنى العلاقة الإنسانية للجسد كغلاف للروح، وتكوين حالة تسوّل فردية أو جماعية ونشرها في الشوارع وعلى الطرقات لجني استعاطف العابرين طلباً للمال الذي يكتنزه المشغّل ويعود مردوده الكبير له وحده بينما ينال المتسوّلون ومنهم صغار السنّ كسرة خبز ومأوى.
من دون أن ننسى كلّ الحالات الأخرى المدرجة في خانة الإتجار بالبشر مثل تنفيذ أعمال إرهابية وارتداء زيّ المرتزقة وتهريب أشخاص من بلد إلى بلد آخر بغية الضغط عليهم للقيام بأعمال غير قانونية، وتقطيع جثّة الضحيّة واستئصال أحشائه من أجل بيع الصالح منها من آخرين.
ومن هذا المنطلق، يجب التفريق بين وضعين:
الأوّل يتمثّل بأم تحثّ إبنها القاصر على ممارسة التسوّل في ظلّ وفاة أبيه، أو فقدانه، أو مرضه، أو غيابه عن الحياة، لكي يعين نفسه أو يساعدها في تأمين لقمة العيش، في وقت تبذل هي كلّ ما في وسعها من أجل تأمين المال ولا تتفرّج على إبنها، وتشاركه التسوّل طريقة حياة.
والثاني يتجسّد بوالدة تجبر إبنها على التسوّل كفرصة ذهبية لتحصيل المال وتقديمه لها، أيّ أنّها تمعن في استغلاله لحسابها الشخصي ومصلحتها ومن دون رأفة أو إدراك لمخاطر هذا التصرّف غير الإنساني.
ففي الحالة الأولى، ليس في الأمر إتجاراً بالبشر لانعدام الإستغلال كلّياً، وما هو إلاّ صورة حقيقية عن اللجوء إلى التسوّل ولو عبر ستار بيع وردة أو علكة أو قنينة مياه، من أجل البقاء على قيد الحياة والصمود في مواجهة ما قد تخلّفه الأيّام من عثرات، وبالتالي فإنّه جرم تسوّل، أيّ جنحة، بينما في الحالة الثانية، فإنّ الإستغلال متوافر وبقوّة ويندرج تحت إطار الإتجار بالبشر وهذا يعني أنّه جناية.
وبهذا الإتجاه، فرّقت الهيئة الإتهامية في بيروت والمؤلّفة من القاضي ماهر شعيتو رئيساً، والقاضيين جوزف بو سليمان وبلال عدنان بدر مستشارين، بين مفهومي الإتجار بالبشر والدفع إلى التسوّل من دون استغلال، ليكون الأوّل جناية، بينما الثاني جنحة، وقالت في حيثيات قرار صادر عنها التالي:
“حيث من مقارنة ما جاء به قانون الاتجار بالأشخاص، وما نصّت عليه المادة /618/ من قانون العقوبات، والتي لم ينصّ المشرّع على إلغائها حين إقرار قانون الاتجار بالأشخاص، يتبيّن أنّ هناك جرمين مستقلّين يتعلّقان بفعل تسوّل القاصر، أحدهما جناية شملها قانون الاتجار بالأشخاص بنصّه، والأخرى جنحة نصّت عليها المادة /618/ المنوه عنها،
وحيث إنّ معيار التفريق بين الفعلين هو عنصر الإستغلال، فإذا توافر نكون أمام جناية الاتجار بالبشر، وإذا تخلّف نكون أمام جنحة دفع قاصر إلى التسوّل، طبعاً على افتراض توافر العناصر الأخرى،
وحيث من العودة إلى الوقائع، يتبيّن أنّه للمدعى عليها الاتجار بالقاصر هي والدته، ويظهر من أقوالها أنّها دفعت إبنها إلى التسوّل لإعالة عائلتها وحفظها والتمكّن من تأمين معيشتها، في ظلّ إصابة زوجها وغيابه عن العائلة، ووضع إبنها في هذا المجال لا يختلف عن وضعها، إذ إنّها تتسوّل بدورها، وهذا ثابت من خلال توقيفها سابقا بهذا الجرم”.
وخلصت الهيئة الإتهامية إلى مخالفة رأي النيابة العامة الإستئنافية وقاضي التحقيق في بيروت في تحديد مآل الإتهام، فهما وجدا فعل الأمّ إتجاراً بالبشر من نوع الجناية المنصوص عليها في المادة 586 عقوبات المضافة بمقتضى القانون رقم 164 تاريخ 24/8/ 2011، بينما هي لم تر في تصرّف الأم ما يشكّل عنصر الإستغلال بمعناه المقصود تشريعياً في حالة الإتجار بالبشر، ووضعته في إطار الدفع إلى التسوّل جرّاً لمنفعة شخصية بحسب مفهوم نصّ المادة 618 من قانون العقوبات، وهي جنحة تتراوح عقوبتها بين ستّة أشهر وسنتين مع غرامة مالية.
“محكمة” تتفرّد بنشر كامل قرار الهيئة الإتهامية 2017/922 على الشكل التالي:
إنّ الهيئة الإتهامية في بيروت المؤلّفة من القضاة، الرئيس ماهر شعيتو والمستشارين جوزف بو سليمان وبلال عدنان بدر،
لدى التدقيق والمذاكرة،
وبعد الإطلاع على تقرير النيابة العامة الإستئنافية في بيروت رقم 2013/20198 تاريخ 2015/4/3، الذي تطلب بموجبه، إتهام المدعى عليها:
• ن. خ. ك.، والدتها ص.، تولد العام 1983، لبنانية الجنسية، محل ورقم السجل (…)، أوقفت بإشارة النيابة العامة الاستئنافية في بيروت بتاريخ 2013/9/21، وتركت بناء لإشارتها، لقاء سند إقامة بتاريخ 2013/9/23،
بالجناية المنصوص عليها في المادة /586/ من قانون العقوبات،
وعلى القرار الظنّي الصادر عن قاضي التحقيق في بيروت، تاريخ 2013/3/2، رقم 2013/67،
وعلى مطالعة النيابة العامة الاستئنافية في بيروت في الأساس تاريخ 2015/2/24،
وعلى أوراق الملفّ كافةً، وبنتيجة التحقيق، تبيّن الآتي:
أولّاً: في الوقائع: بتاريخ 2013/9/21 ألقت دورية من مفرزة استقصاء بيروت القبض على إبن المدعى عليها القاصر، المدعو غ. غ. ك.، البالغ من العمر ثلاثة عشرة عاماً، عندما كان يتسوّل في شارع كورنيش المزرعة، تقاطع الرفاعي، فجرى تسليمه إلى القائم بالتحقيق في فصيلة الرملة البيضاء، الذي استدعى والدته المدعى عليها،
حضرت المدعى عليها إلى مركز الفصيلة، وصرّحت بأنّ ولدها لا يقوم بالتسوّل، إنّما يبيع الورد الذي تشتريه له من شخص يحضره إلى محلّة الملعب البلدي مقابل محلاّت صفصوف كلّ يوم عند الساعة الثامنة صباحاً، وأنّ سبب إعطائها الورد لابنها لبيعه، هو وجود زوجها في مستشفى السلام في طرابلس مع شقيقه لإصابته بحروق شديدة، وختمت بأنّها أوقفت سابقا بجرم تسوّل، وبالنسبة لولدها فإنّها المرّة الأولى،
وبناء لإشارة النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، جرى تسليم القاصر إلى مؤسسة بيت الرجاء الإنجيلي في الكحالة لرعايته،
وتخلّفت المدعى عليها عن المثول في التحقيق الاستنطاقي.
ثانياً: في الأدلّة:
تأيّدت الوقائع المسرودة آنفاً بالأدلّة التالية:
• بالتحقيق الأوّلي المثبت بالمحضر المنظّم من قبل فصيلة الرملة البيضاء بالرقم 302/1716 تاريخ 2013/9/21،
• بالتحقيق ألاستنطاقي،
• بواقعة ضبط إبن المدعى عليها يتسوّل،
• بأقوال المدعى عليها ومدلولها،
• بمجمل الأوراق ومجريات التحقيق،
ثالثاً: في القانون:
حيث إنّ المشرّع اللبناني بموجب القانون رقم /164/ تاريخ 2011/8/24، عرّف الإتجار بالأشخاص بأنّه اجتذاب شخص أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو إيجاد مأوى له، بواسطة التهديد بالقوّة أو استعمالها، أو الاختطاف أو الخداع، أو استغلال السلطة أو استغلال حالة الضعف، أو إعطاء أو تلقّي مبالغ مالية أو مزايا، أو استعمال هذه الوسائل على من له سلطة على شخص آخر، وذلك بهدف استغلاله أو تسهيل استغلاله من الغير، معتبراً استغلالاً إرغام شخص على الاشتراك في التسوّل، هذا بالنسبة للأشخاص، أو الضحايا الراشدين،
وحيث إنّ المشرّع وبالنسبة للضحايا القاصرين، الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة من عمرهم، لم يشترط استعمال أيّ من الوسائل المبيّنة في الفقرة (1) (ب) من المادة /586/ لكي يتحقّق جرم اتجار البشر بحقّ التاجر أو المستغلّ،
وحيث يتبيّن من القانون المشار إليه، أنّ عناصر الاتجار بقاصر هي على الشكل التالي:
1- أنْ يتمّ اجتذابه أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو إيجاد مأوى له،
2- أن يتمّ ذلك بهدف استغلاله أو تسهيل استغلاله من الغير،
هذا من نحو أوّل،
وحيث إنّ المشرّع اللبناني وبموجب المادة /618/ من قانون العقوبات، المعدّلة وفاقاً للقانون رقم /239/ تاريخ 1993/5/27، قد عاقب “من دفع قاصراً دون الثامنة عشرة من عمره إلى التسوّل جرّاً لمنفعة شخصية”،
وحيث من مقارنة ما جاء به قانون الاتجار بالأشخاص، وما نصّت عليه المادة /618/ المذكورة، والتي لم ينصّ المشرّع على إلغائها حين إقرار قانون الاتجار بالأشخاص، يتبيّن أنّ هناك جرمين مستقلّين يتعلّقان بفعل تسوّل القاصر، أحدهما جناية شملها قانون الاتجار بالأشخاص بنصّه، والأخرى جنحة نصّت عليها المادة /618/ المنوّه عنها،
وحيث إنّ معيار التفريق بين الفعلين هو عنصر الإستغلال، فإذا توافر نكون أمام جناية الاتجار بالبشر، وإذا تخلّف نكون أمام جنحة دفع قاصر إلى التسوّل، طبعاً على افتراض توافر العناصر الأخرى،
وحيث من العودة إلى الوقائع، يتبيّن أنّ المدعى عليها بالاتجار بالقاصر هي والدته، ويظهر من أقوالها أنّها دفعت إبنها إلى التسوّل لإعالة عائلتها وحفظها والتمكّن من تأمين معيشتها، في ظلّ إصابة زوجها وغيابه عن العائلة، ووضع ابنها في هذا المجال لا يختلف عن وضعها، إذ إنّها تتسوّل بدورها، وهذا ثابت من خلال توقيفها سابقاً بهذا الجرم،
وحيث إنّه في ظلّ ثبوت أنّ المدعى عليها هي والدة القاصر، وأنّها دفعت به إلى التسوّل لإعالة عائلتها، وفي ظلّ غياب المعيل المفترض لها وهو الوالد، وفي ظلّ تشابه وضع القاصر في التسوّل مع وضع أمّه المدعى عليها، لا يكون عنصر الإستغلال مستجمعاً في فعل المدعى عليها، الأمر الذي يفضي إلى اعتبار فعلها منطبقاً على جنحة المادة /618/ من قانون العقوبات، لا على جناية المادة /586/ من القانون عينه،
لذلك
تقرّر الهيئة بالإتفاق:
1- الظنّ بالمدعى المدعى عليها ن. خ. ك.، المبيّنة هويتها كاملة في مستهلّ هذا القرار، بجنحة المادة /618/ من قانون العقوبات، بعد اعتبار فعلها منطبقاً عليها لا على جناية المادة /586/ من القانون عينه، وإحالتها إلى القاضي المنفرد الجزائي في بيروت لمحاكمتها بما هو منسوب إليها،
2- تضمينها الرسوم والنفقات كافةً،
3- إيداع الملفّ مرجعه بواسطة جانب النيابة العامة الاستئنافية في بيروت.
قراراً صدر في غرفة المذاكرة في بيروت بتاريخ 2017/11/13.
(نشر في مجلّة “محكمة”- العدد 28 – نيسان 2018 – السنة الثالثة)

*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يرجى الإكتفاء بنسخ جزء من الخبر وبما لا يزيد عن 20% من مضمونه، مع ضرورة ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!