مقالات

خاص “محكمة”: كلمة الشعب /عصام كرم

النقيب عصام كرم :
الإنتخاب كلمة الشعب مثلما سورة الفاتحة كلمة التقوى ومثلما لا إله إلاّ الله كلمة الإخلاص. لكنّ الإنتخابات في لبنان ما كانت، إلاّ استثناءً، جولة ديموقراطية. لا انتخاب النُواب. ولا ممارسات مجلس النواب… وصولاً إلى انتخاب رئيس الجمهورية. هكذا من أيّام شارل دبّاس. النائب ما كان ممثلاً الشعب. والرئيس ما كان صورة الأُمّة. والمسألة ليست في قانون الإنتخاب. جرّبنا النظام الأكثري. ونجرّب النظام النسبي. وفي سيرورتنا إلى صندوقة الإقتراع تساورنا تلاوة فعل الندامة. نحن ذاهبون إلى الخِيار في ظلّ سُوْءتيْن … ألطائفية والمجهوليّة. ألطائفية هي رديف لبنان. ويا ليت الأمر غير ذلك. ففي كلّ الكلام الإنتخابي أنّ في المنطقة الفلانيّة أصواتاً من الطائفة الفلانية “يمون” عليها فلان … وفلان هو رأس الطائفة. أو فئة من الطائفة. لا الحزب. لأنّ لا حزب إلاّ بـ “دمغة” طائفية. ما عدا الشواذ … والشواذ لا يُقاس عليه. والمجهوليّة سحنة الكثيرين من المرشّحين. والمجهوليّة، عندي، ليست ألإطلالة الجديدة. ألمجهوليّة هي أنّ هذا المطلّ من حُجب العيوب لم نسمعه في قول ولم نَرَه في فعل. سمّاه الحزب. لا ! سمّاه زعيم الحزب، وفي المعيار الإستحقاقي الأوّل ولاؤه للزعيم … أو لجيب الزعيم. أقول هذا من دون أن أنفي أنّ من بين الإطلالات الجديدة قد تنهض قامات جديرة بالتولّي.
لكنّ مخاطبة الناس … مخاطبة عقولهم… يقتضي أن يكون لها تمهيد بكلام تأتيه العقلانيّة، لا الشعبوية. لأنّ الشعبوية دليل على تعب الديموقراطية. ألشعبوية حكاية مزاج. في قراءتي لـ بيار روزانفالون، صاحب فكرة ” جمهورية ألأفكار ” La république des idées ، أنّ هوغو شافيز شعبوي . وفلاديمير بوتين شعبوي. هذاك وزّع عائدات البترول. وهذا لم يوزّع شيئاً. وإردوغان شعبوي. وفيكتور أُوربان والحزب الحاكم في بولونيا. دونالد ترامب شعبوي. لكنّه ليس شافيز ولا بوتين. لأنّه، إذذاك، يصير في حاجة إلى تعديل الدستور الأميركي … وهذا أمر يدخل إطار مُلاعبة المستحيل … مثل إلغاء الطائفية في لبنان. ألشعبويون يهجرون، من دون أن يرفّ لهم جفن، الساحة الدستورية الممثّلة الإرادة العامة. توقّف السيرورة الديموقراطية …. أو إرتباك هذه السرورة ولَبَكتُها … كلّ هذا وَلَد الأنظمة الكلّية في القرن العشرين. في القرن الحادي والعشرين أطلعت العوامل نفسها ما هو أسوأ … أطلعت الشعبوية. الأداء الديموقراطي يتهاوى. فكان طبيعياً أن يسقط سلطان صندوقة الإقتراع. بطّلت الصندوقة كلمة الناس … حتّى صرنا في حاجة إلى ما ورائية إقتراعية.
أنا لا أنتخب. انتخبتُ، مرّة، منذ سنة 1992. فجاءني النوّاب الذين انتخبتهم يقولون لي إنّ القرار 1559 مثل الطائف. وأنا عارف من وضع القرار 1559 ومن سينفّذ القرار 1559 على رغم “فلسفات” تيري رود لارسن. من لا يزال يذكر بعد؟
على أنّني، وإن لم أنتخب، لستُ حيادياً، ولو كنت أنسب إلى نفسي شيئاً من التجرُّد والنزاهة في هذا المجال بحيث يصعب عليّ أن أنتخب، لَزَاماً، لائحة بكاملها … مع إعترافي، على رغم كلّ شيء، بالحاجة إلى مرجعية فيصل … وأفضل القواعد المرجعية تبقى صندوقة الإقتراع. خطأ جسيم أتَتْه هيلاري كلينتون يوم أهانت ناخبي تُرامب. صندوقة الإقتراع لا تفرّق بين المواطن الصالح والمواطن الآخر.
وتفاعُل مفقود في لبنان وفي بلدان آُخرى. هو تبادُل الصُّنع. لا المواطن يعمل على صُنْع السلطة. ولا السلطة تسعى إلى صُنْع المواطن. وعبارة “صُنْع”، هنا، تعيد التبادل المُواطني بين المواطن والدولة … هذا حتّى يستطيع رجل القَدَر، إذا تَوافر، أن يجمع الأُمّة. أن يدلّ على الطريق. ألا! كم يتطلّب ذلك من الموضوعية في تطبيق أحكام القانون الوضعي! هنا … تسقط سياسة بيلاطوس البنطي. فنعود لا نسلّم الحكم إلى ناس… ثمّ نغسل أيدينا منهم. ونعود لا ننتخب كأنّنا نتخلّص من عبء، بل نرى إلى الإنتخاب … أسمى فعل… الواجب المَدَنيّ الأوّل. لأنّنا، في هذه الحال من التطهُّر، ندرك أننا ذاهبون إلى امتحان نحرص على النجاح فيه. هكذا الديموقراطية الحقّ. وهكذا التطلُّع الشعبي إلى الآفاق العراض. لأنّ التطلُّع الرسمي ، خصوصاً النيابي، لا يشجّع على شيء من هذه المطامح النبيلة.
بلى ! لبنان يستحقّ. هو يستحقّ نواباً أفضل. وحكّاماً أفضل. ورؤساء يكونون فعلاً متسربلين مهابة الرئيس ونظافة الرئيس ووضاءة الرئيس. بعض المفكّرين اعتقدوا، واهمين، أنّ الكلام على حقوق الإنسان يحلّ كلّ قضايا “الإنسان”! أنا لا أُريد الإقلال من أهميّة المؤتمرات من أجل لبنان. فليس بالشأن العادي أن تتلاقى عشرات الدول على الإهتمام بنا، ولو كانت عين هذه الدول على مأرب سياسي. لكنّي أسأل: من أيّام باريس واحد إلى اليوم … يوم صار باريس 4 يدعى “سيدْر”… ماذا تحقّق لـ لبنان؟ أسأل ذلك بكلّ حسن نيّة. كما سألت مراراً ماذا قلّلت الضريبة على القيمة المُضافة من الدَّيْن العام، وهي إنّما من أجل ذلك كانت؟ هي مُضافة. والدَّيْن العام مضاعَف. والموازنات بلا قطع حساب وبقطع سيرة الإبراء المستحيل. مثلما أسأل عن الضربات الغربية في سوريا. هل هي للخلاص من الكيماوي؟ إذا كان ذلك صحيحاً فلماذا لم نضرب أمكنة الكيماوي، ونحن نعرفها؟
رئيس الجمهورية قال للبطرك الماروني إنّ الدولة مفلسة والبطرك أعلن كلام الرئيس. ولا مجال، هنا، للمزاح لأنّنا نصير أمام مزاح دولة.
ألبلد مفلس من زمان. في أواخر أربعينات القرن الماضي استدعى الحكم خبيراً بلجيكياً إسمه فان زيلاند. فاطّلع على الدفاتر. فأقفلها. وقال للحاكمين: إبقوا كما أنتم. هذه هي الفوضى المنظّمة. يومذاك… كان عمر الزعني، الشاعر الشعبي الظريف، يروي حكاية فان زيلاند على نَفَسه. قال: بعد إطّلاعه المخيّب على الدفاتر، دعي الخبير إلى السهر والعشاء. فرأى البطر اللبناني في كلّ مظاهره، فكتب التقرير يقول:
يا كيكي كيكـــي ما بْيعرف فيكـــي
لا طبيب مكسيكي ولا خبير بلجيكي
ومذذاك … لا المؤتمرات. ولا القروض. ولا المنح نفعت الحال المالي اللبناني في شيء.
ومثلما قرأت بيار روزانفالون عن الديموقراطية. قرأت يانيس فاروفاكيس، وزير المال اليوناني، يدعوه ألكسي تسيبراس إلى تَسَلُّم حقيبة المال بعد نجاح “سيريزا” في 25 كانون الثاني 2010. فبقي وزيراً حوالي ستة أشهر … وهرب يكتب كتاباً سمّاه “حديث بين راشدين”. هذا الكتاب يجب أن يقرأه الحاكمون. يا ليتهم يفعلون ليعلموا كيف يجري اللعب الكبير في المؤسّسات المالية العالمية… كما في قدّاس لاتيني. في الغرفة المقفلة كلام. وأمام الكاميرا كلام آخر. ويسمّي فاروفاكيس. ميشال سابين وزير المال في فرنسا. ومثْله ماريو دْراغي وكريستين لا غارد وولفغانغ شوبل.
يا ليت يُقال لنا ماذا جنى لبنان من كلّ المؤتمرات التي انعقدت من أجله كمثل ما جنى من المحكمة الدولية الخاصة به!
* * *
مسكين لبنان… هو فقير خصوصاً بحاكميه! * * *
منهم من أُخضع للتحقيق. فنشلته يد الحكم من تحت الكابوس. نيكولا ساركوزي خضع للتحقيق في المال الليبي وأُوقف. لكنّ القاضي سيرج تورين Serge Touraine ، وهو قاضي تحقيق لا تفسخ قرارته الهيأة الإتّهامية، أجاز له أن يذهب فينام في بيته.. ليعود في الصباح، في سيّارته، موقوفاً. ساركوزي، في القصّة الليبية، كان مثل الليدي مكبث في مسرحية شكسبير. ارتكبت جريمة لتخفي جريمة. قِتالُه القذّافي حتّى القتل كان ليتخلّص من لاعب في مسرحيّة المال الممنوح بسهولة لأنّه محصّل بسهولة. وما كان ينقصه إلاّ رفقة برنار هنري ليفي في الحكاية الليبية … فاعلاً وشريكاً ومحرِّضاً. فكان ما كان. ووقف رئيس جمهورية، بسبب ذلك ، أمام المرآة، كما خلقتني، يا ربّ!
وأعترف أنا لم أستطع أن أفهم تباكي برنار هنري ليفي على الأكراد يلوم أميركا على تركها “الشعب المقهور” إكراماً لحليفها الأطلسي رجب طيّب إردوغان من دون أن يقول كلمة واحدة عن الشعب المقهور الآخر… الفلسطيني يقضّي الأهوال على يد حكّام مثل نيتانياهو وليبرمان.
مرّة … قرأت جان دانييل يكتب عن منديس فرانس يقول إنّ رئيس الحكومة الفرنسي كان يؤيّد إسرائيل. لكنّه ما كان يفهم كيف أنّ الإسرائيليين يأخذون على الفلسطينيي سعيهم إلى أن يكون لهم مثلما كان لليهو دولة!
قصص لا تنتهي… إنتخابات لا تفتح القلب. ولا تَعِد بمواسم الخير. وحكّام “يحكون شكليْن” وهمّهم البقاء على حساب القِيَم … من عندنا إلى أقاصي الأرض. لأنّهم أصغر من القضايا المطروحة بعناد وشراسة. مثلما قمّة العرب أصغر من قضايا العرب… من ليبيا إلى سوريا إلى فلسطين!
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 29 – شهر أيّار 2018 – السنة الثالثة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!