مقالات

دمعةٌ وغصّة على معلّمي عصام كرم/ريتا أبي صالح

المحامية ريتا أبي صالح:
لأنّنا بشر نتكوّن من كتلة مشاعر، فإنّ الوقع الأوّل لهذه الجملة:”إنتقل إلى رحمة الله” التي عادة ما نستمع إليها منقولة أو نقرأوها مكتوبة حالة من الحزن تنتابنا وتملؤنا الحسرة، أمّا إذا ما اكتمل خبر الجملة بذكر من نعرف فإنّ الحزن يتضاعف، وتصبح حالة الفقد مؤلمة إذا ما كان المُخبَر عنه عزيزاً.
هذه الحالات الثلاث المتدرّجة في الحزن، مضاف إليها الحسرة هي التي لم تمهلني وعصفت بي دفعة واحدة لحظة علمت المُصاب الأليم، وفاة أستاذي ومعلّمي النقيب عصام كرم.
كلّ أوجاع الافتقاد وآلامها على الإنسان مثل السفر، والهجر بسبب الزعل، أو الهجرة من مكان إلى مكان آخر وغيرها من الأوجاع التي يخلفها الفقد يمكن مداواتها والتعايش معها ويمكن التعويل على الزمن آلة سلوان قادرة على محو آثارها بسرعة عجيبة، إلاّ افتقاد الموت الذي تقف عنده عجلة الزمن بتوقّف قلب الميت عن النبض ليبدأ اشتغال شريط الذكريات والصور والمواقف التي تشارك إنسان مع إنسان آخر في نسجها.
إنّ فقد الموت عصيّ على المداواة وإن استمرّ الزمن يتدفّق أحداثاً ليشيد واقعاً مختلفاً غير ذلك الذي يبقي صورة من غادر دنيانا. الموت ينهي حياة شخص الميت ولكنّه لا يقطع حبل الذكريات، بل إنّه يزيدها توهّجاً وحضوراً ويجعل فارسنا المترجّل حاضراً في أبسط تفصيلات حياتنا اليومية حضوراً يحيي الذكرى فيضاعف الإحساس بالفراغ عنواناً أوحد للفقدان.
عصام كرم الذي اختار الموت “عامداً” ما فتئ يطرق أبوابه ليسقينا من مرارات موته حيّاً بيننا يوم كنّا نرى تضحياته بما كان ينفق من وقت في تسهيل حياة الآخرين!
النقيب عصام كرم كان اسماً شائعاً في عوالم شتّى، وفيها أجزَلَ العطاء وأفاض إبداعاً وملأ محيطه فيها عذوبة معشر ونقاء إنسانياً. فشاع اسمه في عالم مهنته محامياً فذّاً برع في كتابة مرافعاته كما يقول عنه من اشتغل معه وكلّ من استمع إليه فكان في عمله استثناء ومحامياً من طراز رفيع، وفي هذا يحضرني قول أحد القضاة، بعد ختام المحاكمة في ملفّ كنّا ترافعنا فيه سوية أمامه: “عصام هذا من أهمّ ما أنجبه لبنان والعالم العربي في كتابة المرافعات القانونية”، يشهد بكفاءة النقيب عصام محامياً فذّاً، مدرسة حظيت بشرف التلمذة فيها في عالم القانون والمحاماة.
ويوم ترافعنا أمام هيئة محكمة مؤلّفة من سيّدات قاضيات ثلاث، أصرّ أن أبدأ المرافعة قبله، فقال بعد ختامي الكلام:”ظننت أنّي جئت أترافع أمام سيّدات هذه المحكمة أراني مترافعاً أمام زميلتي الأستاذة ريتا” وكنت دائماً أردّد القول: “تلميذتك”. وكان النقيب عصام يقول للقاضي في مستهلّ كلّ جلسة لدى سؤاله “الأستاذة معك بالوكالة؟ يقول: “حضرة الرئيس أنا معها”. عصام كرم شكراً لأنّك سمحت لي أن أكتشف فيك ومعك ثقل الموازين الإنسانية، وسيطرة سلطان العقل والعلم على البشر، شكراً لأنّك أنت مشعل الذكاء والنباهة وسعة الأفق.
غير أنّه لم تكن المحاماة وحدها ميداناً برز فيه عصام كرم، بل عانق الروعة في أدائه وحذقه عالم الصحافة، فشاع اسمه أيضاً في النقد الأدبي والسياسي والتاريخي. حبّه الأدب والشعر كان من حبّه الحياة وعشقه جمال الكلمة ونفاذها وقدرتها على تفسير الواقع وتغييره.
كان عصام كرم اسماً شائعاً في مجالات كثيرة ومن ضمنها عالم اللامبالاة بماديات الحياة والبوهيمية، وقد كان يعدّ نفسه فارساً فيهما! برز في كلّ شيء إلاّ في عوالم التزلّف والتسلّق والأنانية، فإنّه سجّل فيها إخفاقاً ما بعده إخفاق، لأنّها لم تكن من معدنه فعصام كرم بنسجه لعلاقاته الاجتماعية كان كالذهب الخالص. رحمك الله أستاذي وطيّب ثراك.
وبحكم شغفي في ارتياد مدرسته فترة امتدّت إلى أكثر من ستّة عشر عاماً، سبقها علاقة متينة منذ طفولتي بحكم صداقته مع العائلة، وفيها تقاسمنا أيّام الفرح والشقاء، يمكنني، بحقّ العلاقة المميّزة مع الراحل العظيم وتكريماً له، أن أقف مع القارئ وأستلّ قلمي في يوم مواراة جسده الثرى لأنثر ما ألمّ بنا جميعاً من لوعة الفقد. وسأكون مقصّرة لو أنّي لا أقدم على هذا العمل، ليس لأنّ النقيب عصام كرم يستحقّ ذلك، بل لأنّي مدينة له بذلك وأكثر.
عصام كرم كان قنوعاً حدّ الشبَع، وحالماً بواقع أفضل حدّ التحليق بعيداً في سماوات العدالة الاجتماعية وسيطرة سلطان العقل والعلم على البشر كافة!
أستاذي عصام يا قطعة من ذاكرتي، ورجلاً صادقاً صدوقاً حجبه الثرى عنا جسداً، أعلم يقيناً أنّ العين لن تكتحل بمرآك لأنّ الموت حقّ وقانون طبيعي يطال بحتميته كلّ شيء حيّ، ولكنّي في الوقت ذاته موقنةٌ بأنّك حاضر في هواء لبنان تتنفّسه معنا بملء الرئتين نبضاً حيّاً أبد الدهر لأنّك من المؤمنين بأنّ الأرض التي آوت جلجامش تنحت للخلود معنى جديداً لعلّك أحَد عناوينه..
لن أختم حديثي عنك بتحيّة الوداع لأنّ روحك سوف تبقى تحلّق في سماء محبّيك فيتنفسّونك رحيقاً مع كلّ نسيم صباحي.
وسوف يذكر التاريخ أنّ لبنان ما بين ٣٠-٣-١٩٣١ و ٣-٣-٢٠٢٠ لم يكن هو نفسه لبنان ما قبله ولن يكون نفسه لبنان ما بعده.
عصام كرم عميد النقباء رحَلَ ولم يغِب!
“محكمة” – الجمعة في 2020/3/6

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!