مقالات

في غياب القاضي المقدّم رشيد مزهر/جورج رزق

بقلم القاضي جورج رزق*:
“فضلُ العلمِ خيرُ من فضلِ العبادة، وخيرُ دينكم الورع.” (حديث شريف)
“التقوى خيرُ عتادٍ وأكرمُ زادٍ، وأنبل فضيلة.”(المولدون)
رحلَ أمس القاضي المقدّم رشيد مزهر، الزميل والصديق وابن بلدتي الأبيّة حمانا، عن عمر يناهز الثمانين،
عاش معظم أيام حياته هادئاً، تقيّاً، نقياًّ، وغاب. كما عاش بهدوء وسكينة، مسالماً كان، لا مستسلماً، إلّا لربّه وخالقه. رحل القاضي الخلوق المحبّ، إنّه سليل عائلةٍ “بني معروفية” شهمةٍ عميقةِ الجذور،” مغروزة” في رحاب الجبل الشامخ الأشمّ، عُرفت بسمتها القانونية “أباً عن جدّ” ، فوالده القاضي المقدّم كامل مزهر، مواليد حمانا عام ١٩٠١، حائز على إجازة في إدارة الأعمال من الجامعة الاميركية في بيروت، وعلى دكتوراه في الحقوق من جامعة السوربون في باريس، وقد عُيّن في زمن الانتداب رئيساً لمحكمة التمييز الجزائية، بعد تنقّله في مراكز قضائية عدّة. وعمّه المقدّم بهيج المدير العام لوزارة الزراعة، وجدّه لوالدته السيّدة مي جنبلاط السيد محمود جنبلاط كان عضواً منتخباً في إدارة متصرفية جبل لبنان، وقد عُرِفَ آل مزهر منذ القدم بتعاطيهم في الشأن العام وتمثيل طائفتهم ومنطقتهم في لبنان ردحاً من الزمن، فقد ورد في كتاب ” حمانا اليوم وفي التاريخ” للكاتب “الحمّاني” البر امين بشارة، “أنّ المقدّمين آل مزهر هم الذين أشرفوا على اقطاع بلدة حمانا منذ القرن الرابع عشر واحتلال المماليك لمنطقة كسروان بعد حرق هذه المقاطعة التي كانت تمتد الى حمانا ونهر بيروت في العام ١٣٠٧. وتمتد شرقاً حتى جبل الكنيسة، وقد نزح فرع منهم الى بلدة شملان حيث يعرفون بآل المقدم.”
والراحل رشيد هو والد المحامي المقدم كامل، والمقدم بهيج، وشقيق العميد الركن في الجيش المقدم رياض، والمحامي المقدم نبيل، وشقيقته منى، تنقل في مناصب قضائية عدة، فكان مستشاراً في محكمة جنايات بيروت ومستشاراً في محكمة استئناف بيروت – الهيئة الاتهامية، وكان معظم عمله في القضاء في المجال الجزائي، وعُيّن قاضياً للتحقيق لدى المحكمة العسكرية حيث شاءت الصدفة، وشاء القدر، أن نلتقي مجدداً في هذه المحكمة بعد تعييني قاضياً للتحقيق العسكري أيضاً، ونحن الاثنان من بلدة واحدة، فعملنا معاً لسنوات عديدة خلال ولاية الشيخ رياض طليع قاضي التحقيق العسكري الأوّل (أمدّ الله بعمره) إلى أن أحيل الأخير الى التقاعد في العام ٢٠٠٨ ليحلّ مكانه الرئيس الراحل الذي عيُّن بصفة قاضي التحقيق العسكري الأوّل، فاستمرّ تعاملنا القضائي بكلّ ثقة واحترام ووئام، طيلة مدة ولايته في المحكمة العسكرية حتى تقاعده في العام ٢٠١٠، وكان ذلك في أحلك الظروف العصيبة التي كان يمرّ فيها لبنان، في زمن الانتكاسات الأمنية والتفجيرات والاغتيالات، وقد أمضينا معاً في العمل القضائي “الشاق” أياماً ولياليَ طويلة ومتواصلة، وقد تسنّى لي في تلك الفترة أن أتعرف أكثر على الزميل الراحل رشيد، عن كثب، فخَبرتٝ فيه مزاياه وهي دماثة أخلاقه وترفّعه وفروسيته وحسن تعامله مع الآخرين واخلاصه وجدّيته في عمله ومثابرته في البحث عن الحقيقة، كما كان متّزناً ورصيناً، متشدّداً في تنفيذ القانون، دون أن يبعد عن إنسانيته، ومن قال إنّ القانون يتعارض مع الانسانية؟
لقد كان هاجس الرئيس الراحل خدمة الناس من كلّ المذاهب والفئات والمناطق، فلا يتوانى عن تقديم المساعدة لأيّ سائل أو مظلوم، فبعضهم كان يقصده إلى مكتبه في المحكمة أو الى منزله في بيروت والبعض الآخر إلى دارته في الجبل، في حمانا، في عطلة نهاية الأسبوع، أو في العطل الرسمية، صيفاً أو شتاءً، لا فرق لديه، وكان رجل انفتاح وحوار وداعية وفاق ومحبّة، عدا كونه “مصلحاً” اجتماعياً أو “شيخ صلح” بامتياز، فاكتسب ثقة الناس ومحبّتهم لما كان لديه من قدرة عالية في اقناع المتخاصمين وبالنظر لصدقِهِ وإنسانيته ووقاره ومحبّته ومقدرته على إحقاق الحق:”إعرفوا الحقَ والحقُ يحرّركم” ( السيد المسيح).
“الحقُ هو المحبةُ والمحبة هي وحدها السلام الذي لا يقوى عليه أيّ سلاح. (غاندي)
“وهل يُدرَك النورُ إلّا بالأبصار الصحيحة، وهل يُعرف الحقُ إلا بالعقول الذكية.” (حكمة توحيدية)
أوَ لمْ يقلْ: ” ولا تُلبسوا الحقَّ بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون.” (القرآن الكريم)
كما خَبرْت ُفيه القاضي الشريف والرشيد والمحبّ للعدل، وكان مؤمناً بالقضاء ودوره في إيجاد الحلّ الناجع لقضية لبنان بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، ولطالما تحدّثنا معاً عن مشكلات لبنان المزمنة كالطائفية البغيضة والمذهبية المشرذِمة ومقطِّعة الأوصال، أوصالِ الوطن والشعب، فكانت لديه رؤيا سليمة وثاقبة ووثّابة للمستقبل في هذا المجال، كما تحدّثنا معاً عن وجوب تطبيق العدالة على الجميع، “وان القاضي لا يكون عادلاً، إلّا إذا تساوى عنده الرئيس والمرؤوس.” وفقاً لقول عمر بن الخطاب.”وإن سادت العدالة ساد السلام في العالم.”
وكم…وكم كنا نتحدث معاً عن استقلالية القضاء، وهو أمر بديهي لأنّه منصوص عليه في القانون كما في الدستور وهو أمر متوافق عليه في الظاهر والعلن، ولكنّه “السهلُ الممتنع”، في الخفاء، كما يقتضي تطبيق الدستور بكامله وليس بعض مواده، حتى يعود لبنان إلى النهوض وإلى سابق عهده كما كان منارةً للشرق وللعالم.
هذا وقد جرى تعيين المقدم الراحل الزميل رشيد مزهر محقّقاً عدلياً في قضايا عديدة أبرزها جريمة اغتيال القضاة الأربعة في صيدا في العام ١٩٩٩، كما سُمّي قاضي التحقيق العسكري الأوّل شرَفاً.
“كلٌ منا يصنع قدرَه، ومنا من يزيد عليه.” (تورغينييف).
* قاضي تحقيق أوّل في بيروت بالإنابة سابقاً، قاضي تحقيق لدى المجلس العدلي سابقاً.
“محكمة” – الخميس في 2023/5/11

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!