القرار القضائي الذي كشف حقيقة العدوّ الإسرائيلي/فؤاد مطر
المحامي فؤاد مطر:
إنّ محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة التي تتولى الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول طبقًا لأحكام القانون الدولي، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية يحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
عاشت جنوب افريقيا الفصل العنصري منذ زمن طويل، وفي القرن الماضي كان مؤسسها الجنرال سماتس صديقًا لمؤسس الصهيونية العالمية تيودور هرتزل وقد تشابها في ارتكاب جريمة مصادرة الأراضي وطرد السكان الأصليين وإحلال مستوطنين مكانهم ولناحية التمييز العنصري إلى أن فاز” الاتحاد الوطني الافريقي” بقيادة نلسون مانديلا عام 1994 صديق عبد الناصر والعرب.
وظلت جنوب افريقيا تدرك في ذاكرتها السلوك العنصري للكيان الاسرائيلي بعد أن تحررت منه، ووصف مانديلا والمطران ديزموند توتو بأن اسرائيل دولة فصل عنصري، علمًا أنّ جنوب افريقيا واسرائيل وقّعتا على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها في العام 1948، والغرض منها حماية المدنيين.
بتاريخ 1975/11/10 أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة الصهيونية واعتبرتها حركة عنصرية بقرارها 3379، إلا أنه القرار الأوحد الذي تم إلغاؤه في ما بعد.
وفي عام 2003 تقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية واعتبرت تشييد الجدار الفاصل الذي بنته اسرائيل في الأراضي المحتلة يتعارض مع القانون الدولي.
ومؤخرًا قبلت محكمة العدل الدولية الدعوى المقدمة من جنوب افريقيا على إثر حرب غزة الأخيرة بعد أن عدّدت للمحكمة ما تقوم به اسرائيل في غزة بوصفها جرائم إبادة جماعية والتي تتضمن وثائق ثابتة في تورطها وهي مؤلفة من 84 صفحة صيغت بدقة من خبراء دوليين في مجال جرائم الإبادة الجماعية، ودعمت بأدلة دامغة وحقائق ساطعة لا يمكن دحضها أو الشك فيها.
ووضعت جنوب افريقيا خلال المداولات ما يجري في غزة من انتهاكات لاتفاقية منع الإبادة الجماعية سواء من ناحية قتل 22 الفًا من المدنيين وانّ70% منهم أطفال ونساء، أو لناحية تصرّفات اسرائيل التي تدل على نواياها بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين بتدمير سبل الحياة، والمعاملة الوحشية للمدنيين والحصار الشامل والحرمان من وصول الغذاء والدواء والاستهداف الدائم للمنظومة الصحية، وكلّها تمثّل جرمًا مشهودًا صارخًا وفاضحًا، وتسلط الضوء على انتهاكات اسرائيل ومن خلال تصريحات مسؤوليها وتقارير المنظمات الدولية الرسمية حيث ثبت تسليمها جثثا للصليب الأحمر الدولي بلا أعضاء وبانتهاكها حرمة الموتى التي تلاحقهم في قبورهم وتسرق أعضاءهم.
إنّ الدعوى تتضمن قسمين، الأوّل مستعجل لاتخاذ إجراءات وقتية سريعة وفورية منها وقف إطلاق النار وتسهيل تقديم المساعدات.
والقسم الثاني في الأساس يستغرق وقتًا طويلًا بعد أن تستنفد جميع الإجراءات من تبادل لوائح ومذكرات. وقد تؤدي إلى التعويض عن الأضرار لكافة المتضرّرين ماديًا ومعنويًا، وتختلف عن المحكمة الجنائية الدولية التي تحاكم أفرادًا إمّا بالسجن أو بالتعويض لأفراد.
تتميّز هذه الدعوى بأنها تحدث مع استمرار الإبادة ولم تقبل المحكمة بطلب اسرائيل بسحبها وتحذو بقضية القتل في كمبوديا والإبادة في رواندا.
بتاريخ 2024/1/26 أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي قرارًا تمهيديًا يشمل عددًا من التدابير المؤقتة تلزم اسرائيل بوقف الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني وتجنّب كلّ ما يتعلّق بالقتل والتدمير بحقّ سكّان غزّة، ولكن لم يتضمن دعوة صريحة لوقف إطلاق النار، وإنْ كان قد أدان اسرائيل بجريمة الإبادة الجماعية وطالبها بحماية المدنيين ورفع الحصار.
لقد انكشفت اسرائيل للعالم على حقيقتها من خلال نقل مضبطة الاتهام عبر وسائل الإعلام.
لقد صوّتت القاضية الأوغندية مع القاضي الاسرائيلي ضد كافة الأوامر التي فرضتها المحكمة مقابل خمسة عشر صوتًا بأخذ تدابير احترازية تضمن عدم انتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية. وقد تبرأت دولة أوغندا من تصويت القاضية وردّ سفيرها في الأمم المتحدة بأن تصويتها لا يمثّلها.
لقد فرض القرار على اسرائيل السماح بإدخال المساعدات إلى غزة واتخاذ تدابير فورية لمنع قواتها من تنفيذ الإبادة الجماعية في غزة. واذا كانت المحكمة لم تصدر قرارًا احترازيًا بوقف إطلاق النار الفوري كما اتخذته سابقًا لصالح اوكرانيا، إلّا أنّه القرار الأول الذي يصدر بحكم قضائي دولي بحق اسرائيل، ويعتبر قرارًا تاريخيًا ويشكّل إدانة مباشرة، إلى جانب أنّه أعاد قضية فلسطين إلى مكانتها وأسقط المنظومة الإعلامية الدولية الصهيونية.
لقد أبدت عدة دول رغبتها في تنفيذ قرار المحكمة وتبني مجلس الأمن له واتخاذه ما يلزم لضمان تطبيقه وما أمكن من فرض عقوبات على اسرائيل، وبطلب من الجزائر بعقد مجلس الأمن الاربعاء المقبل جلسة للنظر في قرار محكمة العدل الدولية بغية اعطائه قوة إلزامية وصيغة تنفيذية لاتمام تنفيذه .
وبالتالي، يجب أن يخضع القرار لآليات تنفيذية عبر مجلس الأمن، وتوثيق انتهاكات حرمة الموتى وسرقة اعضائهم، وملاحقة اسرائيل بهذه الجرائم وصدور قرار نهائي بإدانتها بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، ومحاسبة قادة العدو على هذه الجرائم.
“محكمة” – الإثنين في 2024/1/29