أبحاث ودراسات

مقاربة الحلول في تحريك ملفّ تفجير مرفأ بيروت!/يوسف لحود

المحامي يوسف لحود:
أوّلاً : الحلّ التشريعي:
لا بدّ من الاشارة الى أنّ هذا الحل هو إستراتيجي وشمولي وجوهري لأنّه:
أ – يعالج المسألة من جذورها وينزع من أيدي الفرقاء أيّ إمكانية للمناورة أو التحايل على القانون أو التعسّف في استعمال الحق.
ب – لا تقتصر مفاعيله على دعوى تفجير المرفأ فحسب ، بل هو يتناول حالة شاذة وخطيرة في عرقلة حسن سير العدالة ، برزت من خلال التعسّف في استعمال الحق بطلب ردّ القاضي ثم مداعاة الدولة بشأن أعمال قضاتها العدليين، مما جعل القرار الفوري في ترتيب مفاعيل هاتين الدعويين (الردّ + المداعاة) بيد الفريق المدعي بمعزل عن أي قرار قضائي تمهيدي أو أي تدبير قضائي … مما يمكن أن يصدر عن المرجع القضائي الواضع يده على أي من هاتين الدعويين ، مما رتّب نتائج خطيرة على هذا الحق المعطى للفريق المدعي في شلّ عمل القضاء وعرقلة حسن سير العدالة،
وعليه ، وإزاء إستخلاص النتائج الوخيمة في النصّ الحالي للمادتين 125 و 751 أ.م.م. ، من خلال الممارسة العملية المتعسّفة والتي استغلّت ثغرة تشريعيّة لم تأخذ بعين الاعتبار حينها إمكانية توفّر نيّة سيئة ومتعسّفة تجاوزت أي حدود معقولة وفي ظل انعدام الاستقرار في سعر صرف الليرة اللبنانية حيث لم تعد أي غرامة تشكّل رادعاً أو زاجراً لكلّ متعسّف في استعمال حقّ التقاضي ، وإزاء كون هذه الثغرة سوف تستعمل في أي دعوى لاحقاً ، من الدعاوى ذات المواضيع المتعلّقة بالمال العام وسواها مما قد يطال متنفذين ومسؤولين ومراجع سياسيّة …
وهذا ما يجعل تدخل السلطة التشريعية ليس مبرّراً فحسب، بل واجباً وطنياً لتسهيل استرداد المال العام وعدم عرقلة سير الدعاوى الهادفة الى ترسيخ هيبة الدولة واستعادة حقوقها وأموالها …
ج – توحيد المعايير حسب قانون أصول المحاكمات الجزائية وعدم ترك المجال لأصحاب الغايات غير المشروعة في تنكّب وسائل ملتوية من خلال ثغرات قانونية ، لعرقلة حسن سير العدالة، إذ إن المادة 340 أ.م.ج. أشارت الى أن تقديم الاستدعاء بطلب نقل الدعوى من مرجع قضائي الى مرجع آخر لا يوقف السير في الدعوى ، إلا إذا قررت محكمة التمييز ذلك (أي المرجع القضائي الواضع يده على دعوى النقل) ، وهذا يحسم أن المادة 340 أ.م.ج. قد نزعت قرار وقف عمل القاضي أو المحكمة موضوع دعوى النقل من يد الفريق المدعي (وبصورة قلمية أي قبل الاطلاع على استحضار الدعوى) ، وحصرته بيد المرجع القضائي الناظر بالدعوى، مع الاشارة الهامّة جداً، الى أن المادة 340 أ.م.ج. وفي مبررات تقديم دعوى النقل، قد أوردت:
” الارتياب المشروع”، وأنه بالعودة الى المادة 120 أ.م.م. التي يستغلّها معرقلو حسن سير العدالة ، فإن الأسباب الواردة فيها وفي بنودها الثمانية ، فقد وردت جميعها بصورة موضوعية أيّ يجب إثباتها بمستندات وأدلة غير خاضعة لتقدير واسع للمرجع القضائي الواضع يده على الدعوى ، كما أنّ مجال المناورة والتعسّف فيها ضيّق الى حدود الاستحالة (بالنسبة للفرقاء في الدعوى) باستثناء البند 7 منها الذي يعطي إمكانية واسعة في التقدير والتفسير ، وإن مسألة العداوة أو الموّدة اللتين تمنعان القاضي من الحكم بغير ميل ، إنّما تندرج حكماً تحت عنوان الارتياب المشروع الذي نصّت عليه المادة 340 أ.م.ج. ،
وإن الثغرة التشريعية التي يستغلّها أي معرقل في الدعاوى الجزائية هي الاستناد الى السبب ذاته الوارد في المادة 340 أ.م.ج. (أي الارتياب المشروع) ، ولكن تقديمه سنداً للمادة 120 أ.م.م. تحت البند السابع منها ،
للاستفادة غير المشروعة من نصّ المادة 125 أ.م.م. الذي يرفع يد القاضي (الجزائي) لمجرّد تقديم طلب الردّ وإبلاغه إيّاه قبل أي اطلاع أو تدبير أو قرار من المرجع القضائي الواضع يده، مما يقتضي وبصورة ملحّة ، ولدواعي توحيد المعايير ، ومنع أصحاب النوايا السيئة من التعسّف في استعمال أي حق (ولو بدا حقاً وهو عكس ذلك)، اللجوء الى التشريع مجدداً لسدّ هذه الثغرة ، وتوحيد المعاير في كيفيّة رفع يد القاضي المشكو منه وذلك أكان القاضي هو قاضي جزائي أم مدني ، وذلك لمنع الفريق المدعي من استغلال بدون وجه حق التباين الحاصل بين قانوني أصول المحاكمات (المدني والجزائي) وفي الوقت ذاته دون حرمان الفريق المدعي من حقوقه في تقديم دعاوى الردّ والمداعاة ، ووقف عمل القاضي أو المحكمة المشكو من أي منهما ولكن بصورة متوازنة وغير محصورة بإرادته المنفردة بل إن إرادة المرجع القضائي الواضع يده هي التي يجب أن تحسم هذه المسألة على المدى الطويل .
كما أنه وإمعاناً من الفريق المتعسّف في عرقلة سير العدالة ، فإنه يعمد بعد تقديم طلب الردّ الى تقديم طلب مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة العدليين مستغلاً أيضاً الثغرة التشريعية في المادة 751 أ.م.م. التي تمنع القاضي المنسوب اليه سبب الدعوى من القيام بأي عمل من أعمال وظيفته يتعلق بالمدعي وذلك منذ تقديم الاستحضار! ويكون هذا القاضي المشكو من أعماله هو أحد قضاة المحكمة التي سوف تبتّ بطلب ردّ القاضي موضوع طلب الردّ المقدّم من الفريق المدعي ذاته؟!
بما يجعل العدالة مقيدة بسلسلة من حلقات التعسّف التي يصنعها أحد الفرقاء بنفسه ، وينفذها ويرتب مفاعيلها الخطيرة والمدمّرة بمعزل عن أي دور للمرجع القضائي الذي سوف يبت أكان بدعوى الردّ أم بمداعاة الدولة، مما يوجب وبصورة ملحّة تعديل المادة 751 أ.م.م. ليتكامل التعديل مع تعديل المادة 125 أ.م.م. ويعطى التعديلان النتيجة المتوخاة لصالح العدالة والفرقاء جميعاً على حدّ سواء .
1- في تعديل المادة 125 أ.م.م.: بدلاً من النصّ الحالي، الذي يوجب أنّه:”منذ تبليغ القاضي المطلوب ردّه طلب الردّ عليه أن يتوقف عن متابعة النظر في القضية الى أن يفصل في الطلب … “. بما يعني أن القاضي المطلوب ردّه يتوقف عن القيام بواجباته القضائية الى حين الفصل في الطلب ، وهذا يعني الفصل النهائي مع ما يستلزم ذلك من تبادل ومهل … أي وقف إحقاق الحق وعرقلة سير العدالة لمدّة غير محددة.
مما يوجب تعديل نصّ المادة 125 أ.م.م. الى ما يلي:” فور تبليغ القاضي المطلوب ردّه طلب الردّ يتوقف عن النظر في القضية لمدة عشرين يوماً تبدأ من تاريخ تبليغه ، على أنه يحق للمرجع القضائي الواضع يده على طلب الردّ ، أن يقرر تمديد هذه الفترة أو تقصيرها والى المدّة التي يراها مناسبة بقرار معلل يصدر عنه،
أو يقرّر وقف القاضي المطلوب ردّه عن متابعة النظر بما يتعلّق بطالب الردّ دون سواه،
أو يقرر السير في الدعوى دون أن يشترك فيها القاضي المطلوب ردّه ،
ويحق للمرجع القضائي الواضع يده وبصورة معلّلة أن يرجع عن أي قرار يتخذه مما ورد أعلاه أو يعدّله فيما لو برزت في الملف أسباب قانونية تبرر ذلك ،
وإن قرارات المرجع القضائي لهذه الناحية نافذة على أصلها ، ولا تقبل أي طريق من طرق المراجعة .
ويعمل بهذا النصّ دون سواه خلافاً لأي نصّ مخالف أينما وُجد ، وتنسحب مفاعيله على الدعاوى التي ما تزال عالقة ” .
2- في تعديل المادة 751 أ.م.م.: فقد نصّت المادة الحالية فقرتها الأخيرة على: “لا يجوز للقاضي المنسوب اليه سبب الدعوى منذ تقديم إستحضارها أن يقوم بأي عمل من أعمال وظيفته يتعلّق بالمدعي”. مما يوجب تعديل الفقرة الاخيرة في المادة 751 أ.م.م. الى ما يلي: “يتوقف القاضي المنسوب اليه سبب الدعوى عن القيام بأي عمل من أعمال وظيفته يتعلّق بالمدعي لمدة عشرين يوماً تبدأ من تاريخ إبلاغه إستحضار الدعوى،
ولكن يحق للمرجع القضائي الواضع يده على الدعوى أن يقرر وبقرار معلل ،
– تمديد أو تقصير هذه المهلة والى المدّة التي يراها مناسبة ،
– الرجوع عن أي قرار إتخذه بالخصوص أعلاه ، أو تعديله ،
وإن أي قرار لهذه النواحي يكون نافذاً على أصله ، وغير قابل لأي طريق من طرق الطعن كافة ،
ويعمل بهذا النص دون سواه خلافاً لأي نصّ مخالف أينما وُجد وتنسحب مفاعيله على الدعاوى التي ما تزال عالقة ” .
ثانياً : في تفعيل المادة 28 من المرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 1983/9/16:
نبحث الحلول المتاحة لتحريك ملف تفجير مرفأ بيروت ومنع التعسّف من محاولة ايقافه بصورة مستمرة ، وذلك دون اللجوء الى حلول لا أساس قانونياً لها أو أنها في أفضل أحوالها مخالفة للنصوص القانونية الواضحة ، من مثل الحل المقترح بتعيين محقق عدلي ثانٍ بصلاحيات مقيّدة؟!
إذ يمكن ، واستناداً الى المادة 28 من المرسوم أعلاه ، لحضرة الرئيس الأول لمحكمة التمييز (أي رئيس مجلس القضاء الأعلى) القيام بصلاحيات مماثلة لصلاحيات الرئيس الأول الاستئنافي ، بما يؤدي الى إمكانية فكفكة العقد المزروعة تعسفاً ، وذلك بتكليف قاضٍ محل حضرة الرئيس المنتدب لمحكمة التمييز غرفتها الأولى القاضي ناجي عيد الذي تمّ تقديم استحضار مداعاة الدولة عن أعماله ، فقط لمنعه من ترؤس الغرفة الأولى لمحكمة التمييز المقدّم أمامها طلب ردّ المحقق العدلي القاضي طارق البيطار ،
وإن مبادرة القاضي ناجي عيد الى التنحّي لإفساح المجال في استكمال تشكيل الغرفة الأولى برئيس مكلّف ، قد يساهم في ايجاد الحلّ.
ثالثاً: في استكمال نصاب الهيئة العامّة لمحكمة التمييز: وذلك بالقضاة الحاليين الذين يترأسون محاكم التمييز بالاصالة أو بالانتداب، إذ إن المادة 30 من المرسوم 1983/150 ، تنصّ على أنه عند تعذر ترؤس الرئيس الأول للهيئة العامة لمحكمة التمييز فإن الرئاسة تؤول الى رئيس الغرفة الأعلى درجة وعند تساوي الدرجة الاقدم عهداً في القضاء وعند تساوي الاقدمية الاكبر سناً،
وأنه بين كل هذه التراتبية لم يرد أي صفة للرئيس البديل عن الرئيس الأول تؤكد على وجوب كونه أصيلاً أو منتدباً، كما إن المادة 20 من القانون المنفذ بالمرسوم 7855 تاريخ 1961/10/16، قد أشارت الى أن الهيئة العامة لمحكمة التمييز تتألف من:”رؤساء الغرف”، وهي هنا لم تشر الى وجوب أن يكون رئيس الغرفة أصيلاً أم منتدباً ، فيكفي أن يكون رئيساً لغرفة تمييزية حتى يكون حكماً عضواً في الهيئة العامّة لمحكمة التمييز، وإن أي قانون لم يقيّد صلاحيات رئيس الغرفة المنتدب ويجعلها أقل من صلاحية الرئيس الاصيل، كما أن الحقوق المعطاة للاصيلين والواجبات الملقاة عليهم هي ذاتها بالنسبة للمنتدبين، بما يجعل التفريق في مسألة تشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز بين أصيل ومنتدب، وجعل المنتدب أقل “رتبة” من الاصيل، بينما يُفترض أن يحل مكانه بصورة كاملة وغير منتقصة ، انما يبدو وكأنه تفريق بين قضاة يقومون بالمهمة ذاتها ، وهذا يُلحق أفدح الضرر المعنوي بالجسم القضائي ، إضافة الى الاذعان بترك القرارات المنوطة بالسلطة القضائية قيد المساومة والمشاركة مع السلطة السياسية في حين أن ذلك منوط باجتهاد متقدّم وليس بتعديل للقوانين.
وإن هذا الحل في حال الاجتهاد بشأنه واعتماده، سوف يؤدي الى مباشرة فكفكة العقد التي تحيط بدعوى تفجير مرفأ بيروت ، وسوف يكون بداية سلوك فاعل وتصاعدي في ترسيخ إستقلالية السلطة القضائية ، وإجتراح الحلول من داخلها لأي عقبة (أو لبعض العقبات) تعترض حسن سير العدالة أو عرقلة الانتظام العام القضائي. إذ إن استكمال نصاب الهيئة العامة لمحكمة التمييز سوف يؤدي الى إمكانية النظر والبت باستحضار مداعاة الدولة بشأن أعمال القاضي ناجي عيد رئيس الغرفة التمييزية الأولى الواضعة يدها على طلب ردّ المحقق العدلي طارق البيطار.
رابعاً: في الخلاصة: من خلال العرض أعلاه ، يتبيّن أنه – ولو سلمنا جدلاً – أن الامور غير واضحة قانوناً وتستلزم الاجتهاد لحسن التفسير ، بشأن إستكمال نصاب الهيئة العامة لمحكمة التمييز ، أو بشأن تفعيل المادة 28 من المرسوم 1983/150، فإننا نكون إزاء إجتهاد ايجابي يتجانس ويتناسق مع روح القوانين والمواد المطلوب تفسيرها، بما من شأنه إيجاد الوسائل السليمة والسويّة لتحقيق الأهداف النبيلة ومنها فكفكة العقد عن التحقيق العدلي بجريمة تفجير المرفأ ، وإن مفاعيل هذه الحلول تبقى ايجابيّة أياً تكن القرارات التي سوف تصدر جراء إستكمال نصاب الهيئة العامة لمحكمة التمييز أو الغرفة الأولى لمحكمة التمييز،
وهذا كله مما لا يمكن مقارنته بفكرة تعيين محقق عدلي ثانٍ مما سوف يشكل خطأ جسيماً يلحق أفدح الضرر بسمعة العدالة في لبنان وخارج لبنان، كما بوحدة الجسم القضائي (إحتمال قوي)، مع الاشارة الى أن المخالفة الجسيمة لن تحقق سوى هدف واحد (حسب أقوال داعمي قرار تعيين محقق عدلي ثانٍ) تنحصر بالبت بطلبات تخلية السبيل أو طلبات الدفوع الشكلية، في حين أنّ ما عرضناه أعلاه لناحية الحلول البديلة ، انما يحقق نتائج أهم وأشمل منها – إضافة للبت بالدفوع وطلبات تخلية السبيل – إستكمال التحقيق العدلي ، وصولاً لإصدار القرار الاتهامي فيه وهو الهدف الجوهري للسلطة القضائية حسبما هو مفروض.
وأما بما يختصّ تعديل نص المادتين 125 و751 أ.م.م. فهو مسألة أساسية وجوهرية لتقويم مسار الصلاحيات المعطاة للفرقاء في أي دعوى كانت لمنع عرقلة سير العدالة وفي الوقت ذاته لإرساء التوازن الايجابي بين حقوق وواجبات الفرقاء في أيّ دعوى، وعدم جعل أيّ حقّ معطى لأيّ فريق بمثابة الحاجز أمام حقوق الآخرين ، بل والاخطر من ذلك، بمثابة المانع لإحقاق الحقّ ووقف سير العدالة وشلّ القضاء.
وهذا ما يوجب التعديل المذكور لصالح الانتظام العام القضائي في دعوى تفجير المرفأ وفي أي دعوى أخرى قد يلجأ أحد فرقائها وللتملّص من نتائج أفعاله الى إعتماد الاساليب المتعسّفة ذاتها .
فعسى أن تتخذ السلطة التشريعية المنحى الملائم لخدمة الوطن ومصالحه العليا ومن بينها تسهيل عمل السلطة القضائية والحفاظ على حسن سير العدالة من خلال تعديل بعض النصوص القانونية دون تمرير التعديل على ميازين المصالح الشخصية والفئوية الآنية …
وعسى أن تتخذ السلطة القضائية القرارات الجريئة والاجتهادات ذات المنفعة العامّة لترسّخ إستقلاليتها وتحقق حسن سير العدالة بطرق وأساليب مبررة.
“محكمة” – الأحد في 2022/10/2

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!