أبحاث ودراسات

اللامركزية الإدارية في لبنان ودورها في تطوّر الخدمة العامة والإنماء المتوازن(الجزء الأوّل)/سلام عبد الصمد

إعداد المحامي الدكتور سلام عبد الصمد وفريق عمل SALAMAS LAW FIRM:
مقدّمة: اللامركزية الإدارية تُعتبر من المبادئ التي ترتكز عليها قواعد الديمقراطية، والتي من خلالها تتوزّع الوظيفة الإدارية بين الجهاز المركزي والوحدات الإدارية الأُخرى عبر مجالس منتخبة.
ومبدأ اللامركزية الإدارية، ليس بجديد على النظام الإداري اللبناني. فهو قد أُقرَّ في لبنان، وتكرّس في صيغة اتفاق الطائف. وعليه، فإنّه من الضروري والملحّ اليوم قبل الغد المبادرة إلى تطبيقه، وتفعيله، لما لذلك من انعكاساتٍ ايجابيةٍ على الوطن والمواطن، ولاسيّما في الظروف الاقتصادية والمالية التي يمرُّ بها لبنان. وإنّ اعتماد اللامركزية الإدارية، لا يعني بأيِّ شكلٍ من الأشكال كما يُروّج البعض، أنّه فيدرالية أو تقسيم مقنّع؛ بل هو خطوة تنظيمية إدارية للدّولة، تهدفُ لراحة المواطن. وهي أكثر عدالة في جوانب كثيرة، وتستندُ إلى الديمقراطية الحديثة والمعتمدة في الكثير من الدّول الراقية، ويجب أنْ تستند ولا سيّما في لبنان إلى الكثير من التوعية الوطنية لخلق أجيال، تدينُ بالولاء والانتماء للوطن وروحية انتماء الوطن، بعيداً عن أفكار التقوقع والتعصُّب والانطوائية، بكلِّ مفاهيمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها….
بناءً على ما تقدّم، يغدو تفسير مفهوم اللامركزية الإدارية من الناحية القانونية وتبيان خصائصها وكثرة إيجابياتها أمراً ضرورياً ومهماً، لما له من انعكاساتٍ على الوضع اللبناني:
أوّلًا: في تحديد المصطلحات:
في ظلّ ما نعيشه من تخبُّطاتٍ ووسط كلّ التأويلات والمزايدات ومخاوف البعض غير المبرّرة من تطبيق هذا النظام، على اعتباره – وحسب زعمهم – شكلاً من أشكال الفيدرالية، لا بُدَ من الوقوف عند تعريف اللامركزية الإدارية معالمها، وتمييزها عن الفيدرالية.
وفقاً لقاموس ” اكسفورد”، نجد أنّ مصطلح اللامركزية يدلُّ على نقل سلطة اتخاذ القرار من الحكومة المركزية إلى فروعها المحلية.
كما، وبحسب تعريف البنك الدولي، ” اللامركزية تعني إسناد مهام جمع ضرائب ومهام الادارة السياسية إلى مستوياتٍ حكوميةٍ أقلّ. وهو مفهوم يُستخدم في مختلف أنحاء العالم على مستوياتٍ مختلفة، ولأسبابٍ مختلفة وبوسائل مختلفة “.
إذاً، نستطيعُ القول، أنّ اللامركزية هي نوعٌ من التنظيم الإداري، وليس السياسي للدّولة الموحّدة، يقوم على نقل صلاحياتٍ إدارية فحسب، من السلطة المركزية الى وحداتٍ محليةٍ منتخبةٍ مباشرةٍ من الشعب، تتمتعُ بالاستقلالين المالي والإداري، ويكون لهذه الوحدة صلاحيات إدارية ومالية.
أمّا النظام الفدرالي، فهو النظام الذي تتّحدُ على أساسه دول أو مناطق او ولايات، على أنْ تتمتّعُ كلِّ منطقةٍ وولايةٍ باستقلاليةٍ واسعةٍ في تدبير شؤونها، ويكون لها مؤسّساتها المستقلّة تماماً عن الحكومة الفدرالية، وبصلاحياتٍ كاملةٍ في إدارة شؤونها المحلية. فيُوجد في كلِّ ولايةٍ دستورٌ وهيئاتٍ تشريعية، وتنفيذية، وقضائية مستقلّة عن الهيئات الفدرالية. وتبقى السياسة الخارجية بيد السلطات الفدرالية. كما وفي النظام الفدرالي، لا تخضع الولايات لرقابة الحكومة الفدرالية، ومن الأمثلة على ذلك الولايات المتحدة ونظام الكانتونات في سويسرا. وهذا يختلفُ تماماً عن نظام اللامركزية الإدارية، حيث تخضعُ الولاية لرقابة ووصاية الحكومة المركزية عند مباشرتها أعمالها.
نستنتجُ ممّا تقدّم، بأنّه في اللامركزية الإدارية تُعطى الصّلاحيات، النوعية والمكانية للبلديات، أو لمجالس المحافظات، أو لوحداتٍ إدارية؛ على أنْ تبقى الأمور الأساسية في الدّولة منوطة بالجهاز المركزي.
على عكس النظام الفدرالي، حيثُ تتمتّع الوحدات الإدارية والسياسية أيّ الكونتونات أو الولايات بهامش أوسع، على أنْ السياسة الخارجية والدّفاعية منوطةٌ بالجهاز المركزي.
وفي النظام الفدرالي، تتقاسمُ الولايات مع الحكومة الفدرالية السلطة السياسية. أمّا في نظام اللامركزية الإدارية، فإنَّ الولايات تتقاسم مع الحكومة المركزية الوظيفة الإدارية، بمعنى أنَّ من يُمارس السلطة المحلّية في دولة اللامركزية الإدارية هم حكّام ثانويون، أمّا الحكّام الذي يُمارسون السلطة المحلية للدّولة الفدرالية، هم حكام فعليون بالمعنى الدقيق للكلمة.
ثانيًا: ميّزات اللامركزية الإدارية:
تُعطي اللامركزية الإدارية فرصةً لتطوير الإدارة والديمقراطية، كما ولإنماء أكبر وعدالة في فرض وجذب الاستثمارات له. كما أنّ اللامركزية الإدارية تُراعي واقع وخصوصية الحاجات المحلّية، فهي ترتكز على التميُّز بين المصالح المحلّية والوطنية. ومن أجل إدارة هذه المصالح على أكمل وجه، يُتركُ أمر إدارة الشؤون المحلّية لهيئاتٍ منبثقةٍ من الشعب في وحداتٍ الإدارة المحلّية؛ باعتبار أنّ حاجات المواطنين، تختلفُ من منطقةٍ إلى أُخرى، إلّا أنّ العامل المشترك يبقى أنّهم أدرى بحاجاتهم وأقدر على حلّ مشاكلهم من الموظّفين الذين تُعيّنهم الحكومة المركزية والذين يرتبطون بها مباشرة. ولكن لا بُدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ تحديد ماهية الشُؤون المحلية، لا يترك للإستنسابية، بل للدستور الذي يعترف بوجود الجماعات المحلّية، كما وللسّلطة التشريعيّة التي تُحدّد الصلاحيات في قوانين تتّخذها.
إضافةً لما تقدّم، فإنَّ اللامركزية تُؤمّن الديمقراطية في الإدارة، وذلك عبر إعطاء المواطنين حق انتخاب الهيئات المحلية، وليس تعيينها، كي تُعبّرَ عن تطلعات وإرادة المواطن، وتتَحسّس أوضاع وأوجاعهم وحاجتهم اليومية على وجهٍ أعم.
كما تُساهم اللامركزية بالتنمية، فالهيئات المحلّية تُؤدّي دورًا مرموقًا ومفيدًا، لا سيّما بعدما تغيّر مفهوم الدولة، بحيث أصبحت دولة رعاية.
لكلّ هذه المزايا والعوامل، تمّ إدراج اللامركزية الإدارية ضمن بند الاصلاحات في اتفاق الطائف، وتمّ اعتمادها كمدخلٍ إصلاحيّ ومعبّر نحو التعايش والانصهار الوطني الذي من الصعب تحقيقه، إلّا بالسماح لكلّ فردٍ ومجموعةٍ بالمشاركة بالإدارة بشكلٍ فعّال. كما ولمجرّد ورود اللامركزية في اتفاق الطائف، أصبح من غير المقبول القول بأنّ اللامركزية مطلب لفئةٍ من اللبنانيين، بل هي أضحت حاجةً وطنية.
ثالثًا: آلية تنفيذ اللامركزية الإدارية:
لكي تكون اللامركزية طريقاً للحلّ والوحدة والديمقراطية، فلا بُدّ من التوقّف عند طريقة توظيفها وتطبيقها، لتؤدّي الغاية من وجودها وتؤمّن الاستقرار، وتُعيد تجميع الدولة والمجتمع على أُسسٍ صحيحة.
ويتحقّق ذلك عبر مشروع مركزية إدارية متوافق مع المبادئ التي وردت في الفقرات “ز” “ط” و”ي” من مقدّمة الدّستور.
فالمطالبة باعتماد اللامركزية الإدارية يهدفُ للوصول إلى الانماء المتوازن بين مختلف المناطق.
فأيُ مشروع قانون أو فكرة لتطبيق اللامركزية خارج هذا الإطار، يكون خرقاً لمقدّمة الدستور اللبناني الفقرة “ز”، والتي نصّت على ما يلي: الإنماء المتوازن ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا ركنٌ أساسيٌّ من أركان وحدة الدّولة واستقرار النظام.”
كما نصّت الفقرة “ط” من المقدّمة على أنّ ” أرض لبنان أرض واحدة لكلّ اللبنانين …. فلا فرز للشعب على أساس أيّ انتماءٍ كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين “.
كما نصّت المادة الأولى من الدستور على أنّ ” لبنان دولة مستقلّة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة “؛ أيّ أنّ اللامركزية التي نطمحُ إليها هي اللامركزية التي لا تعني التقسيم، بل الإدارة المحلّية التي لا تُؤثّر على الوحدة الوطنية ومبادئ العيش الواحد.
إضافة إلى كلِّ ما تقدّم، يجب أنْ يُبنى إنشاء اللامركزية وفق إطار تشريعي وتنظيمي، يضمنُ النزاهة والشفافية والحوكمة الرشيدة ودولة القانون والمؤسّسات. وكلّ ذلك يأتي منعًا لتحويلها إلى “لامركزية فساد”.
خاتمة
من النافل القول، إنَّ اللامركزية الإدارية هي مبدأ دستوري قبل أيِّ شيء، كما أنَّها توزيع عادل للمهام الإدارية بين الحكومة المركزية والسلطات المحلّية، وأيضًا، وبطبيعة الحال، حاجةٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ وتنمويةٌ مطلوبةٌ للحالة اللبنانية.
على عكس، النموذج الفيدرالي، الذي وإنْ كان ناجحًا ومعتمدًا في بعض الدول الغربية، فهو برأينا سيكون سببًا للإنقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية في لبنان، نحن بغنىً عنها.
ملاحظة: إنَّ هذه الدراسة هي الجزء الأوّل فقط من دراسة اللامركزية الإدارية، في حين سنتناول في الجزء الثاني والثالث ما يلي: “اللامركزية الإدارية – نموذج البلديات، اللامركزية الإدارية – سلطات المحافظين.
“محكمة” – الثلاثاء في 2023/4/11

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!