أبحاث ودراسات

المعاهدات الدولية المبرمة والقوانين الداخلية.. تنازع أو تكامل؟/كلير فخر الدين

الدكتورة كلير فخر الدين:
يحتل موضوع أولوية الاتفاقية الدولية وسموها على النظام القانوني الداخلي، أهمية كبيرة في نطاق القانونين الدولي والداخلي في جوانب عدة، لعل أبرزها مسألة إنفاذ الاتفاقية الدولية في النظام القانوني الداخلي، وما تثيره من الناحية القانونية من إشكاليات كثيرة على صعيد الفقه والقضاء الدوليين. ففقهاء القانون الدولي لديهم رؤى مختلفة بشأن هذه المسألة، إذ ظهرت مدرستان: الأولى تنادي بوحدة القانون، والثانية بثنائية القانون، والتي انقسمت بدورها إلى فريقين، بين المنادين بعلوية القانون الدولي على النظام القانوني الداخلي، والمنادين باعتبار أن النظام القانوني الداخلي يعلو على النظام القانوني الدولي، وظهر فريق ثالث يدعو إلى نظرية وسطية بين هاتين المدرستين. وقد ترك هذا الإختلاف أثره في الاتفاقية الدولية التي تعدّ من أهم مصادر القانون الدولي.
للدستور طرق يقام بها، وهي تختلف باختلاف المدى الذي يسهم الشعب فيه في ممارسة السلطة التأسيسية، فقد يكون الطريق الذي يقام الدستور به ديموقراطياً وذلك في حالة انفراد الشعب وحده في ممارسة السلطة التأسيسية، وقد يكون الطريق الذي يقام الدستور به غير ديموقراطي وذلك في حالة استلاب حق الشعب في ممارسة السلطة التأسيسية أو في حالة وجود شريك له في ممارسة السلطة المذكورة.
ومهما يكن من أمر، فإنّ للدستور طرقاً يظهر بها إلى حيّز الوجود، ولا يقدح من هذه الحقيقة أن تكون هنالك قوى أثرت في وضعه ودفعت به إلى أن يتخذ هذا الاتجاه أو ذاك، وعليه فإنّ المعاهدة الدولية وبالرغم من دورها الحاسم في التأثير في إقامة دساتير بعض الدول ناقصة السيادة، إلّا أنّها لم تظهر أبداً بمظهر الطريقة التي أقامت الدستور.
فما هي الطرق التي تجلّت بها الدساتير التي كانت تحت الإنتدابين الفرنسي والبريطاني؟
إنّ التعارض بين المعاهدات الدولية والقانون الداخلي بارز في العراق، فلا شك أنّ ظهور مشكلة التنازع بين المعاهدات الدولية المبرمة – والتي سوف تبرمها الحكومة العراقية – مسألة لا يمكن إنكارها، بسبب خلو الدستور العراقي من بيان مكانة المعاهدات الدولية في القانون الداخلي العراقي. وفي هذه الحالة، فإنّ أحكام المعاهدة لا تتفوق على أحكام القانون الداخلي المتعارضة معها، سواء أكان هذا القانون مسابقة أم لاحقًا لها، حيث تعامل المعاهدة معاملة القانون الداخلي، وتتمتع أحكامها بذات القيمة القانونية لأحكام القانون الداخلي، وفي حالات ظهور التعارض أو التنازع بين أحكام المعاهدة الدولية والقانون الداخلي، فعلى القاضي العراقي الاستعانة بالقواعد العامة لحل تنازع القوانين من حيث الزمان.
ويتمّ حلّ التنازع القائم بين أحكام معاهدة أو اتفاقية دولية نافذة في العراق، وبين أحكام القانون العراقي النافذ، بتطبيق قاعدة القانون الجديد ينسخ القانون القديم. إن إعمال هذه القاعدة لا يثير أية إشكالية إذا كانت الاتفاقية لاحقة القانون الداخلي، إذ في هذه الحالة يطبق القاضي أحكام المعاهدة باعتبارها ناسخة للقانون القديم. ولكن الإشكالية تثور في الأحوال التي يكون فيها القانون لاحقا للمعاهدة، لا سيما إذا وجد في القانون نص يفيد صراحة باتجاه إرادة المشرع إلى مخالفة نص المعاهدة، وما على القاضي في هذه الحالة إلا الامتثال إلى أوامر مشرعه، وتطبيق نص القانون، مخالفة بذلك أحكام المعاهدة السابقة، وبالتالي تتحمل الحكومة العراقية المسؤولية الدولية في حال تحقق شروط هذه المسؤولية.
أما في حال عدم وجود نص في القانون الجديد، يفيد صراحة باتجاه إرادة المشرع إلى مخالفة المعاهدة التي سبق للحكومة أن أبرمتها قبل صدور التشريع، فهنالك من يذهب إلى أن القاضي في هذه الحالة يفترض أن المشرع لم يقصد مخالفة المعاهدة السابقة، بل إنه أراد ضمناً الاحتفاظ بها، وتطبيقها إلى جانب أحكام التشريع اللاحق. ومن ثم يسعى القاضي إلى التوفيق بين المعاهدة السابقة والتشريع اللاحق، ولتحقيق ذلك يذهب بعض الفقهاء إلى أن كل تشريع يتنازع مع معاهدة سابقة إنما يترك مجالاً لإعمالها، ووسيلة هذا الأعمال هي استثناء الحالة – التي يمكن فيها تطبيق المعاهدة – من أحكام التشريع اللاحق، فالمعاهدة لا تعقد إلا بين دول معينة؛ وعليه، يفترض القاضي الوطني أنّ المقصود من التشريع اللاحق الذي يتعارض مع المعاهدة الدولية” هو تطبيقه على الأجانب، ممن لا تكون بلادهم طرفاً في تلك المعاهدة؛ أما الأجانب الذين ترتبط بلادهم بالمعاهدة، فلا يسري عليهم حكم التشريع اللاحق، وإنّما تطبق بشأنهم أحكام المعاهدة السابقة للقانون الداخلي.
إنّ مشكلة تعارض المعاهدة الدولية للقوانين الداخلية في العراق، سببها عدم النصّ على مكانة المعاهدة الدولية وعلم النص على الرقابة على دستورية المعاهدات. والتي يمكن معالجتها من قبل القضاء العراقي، إذا ما تعرّض لها عند تطبيقه لنصوص المعاهدة المخالفة للدستور، لا سيّما بعد إقرار الرقابة الدستورية على القوانين في العراق، في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، ومن ثمّ في الدستور العراقي النافذ، وخاصة بعد صدور قانون المحكمة الاتحادية العليا في العراق، وهي تلك المحكمة التي منحتها المادة (93) من الدستور النافذ اختصاص الرقابة على القوانين والأنظمة النافذة في العراق.
وإن كان الصحيح ما يندرج في نطاق الرقابة الدستورية هو القانون الداخلي بحسب نص المادة (93) من الدستور النافذ، ولكن القانون في نطاق الرقابة الدستورية، لا ينصرف فقط إلى ما يصدر عن السلطة المختصة بالتشريع من أعمال تشريعية، وإنما يلحق به أيضاً في خصوصها ما كان بذات قيمته وقوته، وقوة القانون التي تحوزها المعاهدات والاتفاقيات الدولية بتمام الإجراءات المقررة لذلك، تجعلها أيضا كالقانون سواء بسواء في الخضوع للرقابة الدستورية.
أوْلى فقهاء القانون الدولي هذا الموضوع الأهمية التي يستحقها وفي جميع دول العالم من دون استثناء فكتبت الكثير من الدراسات والبحوث عن تحديد العلاقة بين القاعدة القانونية الدولية والقاعدة القانونية الداخلية، والموقف المطلوب في حالة تعارضهما فهل يعطل النص القانوني الداخلي أم يوقف العمل بنصوص المعاهدة؟ لقد اختلف الفقه القانوني في الإجابة على مثل هذا التساؤل وقد ترتب على ذلك ظهور العديد من الآراء الفقهية بهذا الصدد.
كما لم يحدّد الدستور اللبناني لعام 1926 القيمة القانونية للمعاهدة بالنسبة للدستور، وإنّما بيّن أنّ رئيس الجمهورية يتولّى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ولا تصبح مبرمة إلّا بعد موافقة مجلس الوزراء. وتطلع الحكومة مجلس النوب عليها حينما تمكنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة.
أما المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب؛ ونصت المادة (1) من قانون المجلس الدستوري لسنة 1993 المعدل بقانون رقم 150 لعام 1999 على أنه يتم تشكيل مجلس دستوري للرقابة على دستورية القوانين والأمور التي لها صورة قانون. وأكدت المادة (18) من نفس القانون حول الرقابة الدستورية.
يبدو أن الدستور اللبناني قد تبنى الهيئة المستقلة على دستورية المعاهدات “المجلس الدستوري”.
ولم يقتصر هذا التأثر على طبيعة المؤسسة الدستورية بل وتعداها إلى آلية عملها، بحيث جعل رقابة المجلس الدستوري على المعاهدات، رقابة جوازية اختيارية، ما يعني أن ليس للمجلس صلاحية إثارة هذه الرقابة من تلقاء ذاته، ولكن بالنظر إلى العبارة الأخيرة من المادة (52) من الدستور اللبناني، ونظراً لضرورة موافقة مجلس النواب في شكل قانون قبل إبرامها؛ يبدو من الضروري أن يكون للمجلس الدستوري أحقية في بحث دستوريتها عند الطعن في القانون بعد نشره.
وذهب البعض في هذا الشأن إلى أنه طالما أن المعاهدات هي من قبيل النصوص التي لها قوة القانون، فإنها وبعد الموافقة عليها بالشكل المنصوص عليه في أحكام الدستور، تدخل في النظام القانوني للدولة، وعلى هذا الأساس، لا مندوحة في خضوعها لرقابة المجلس الدستوري لمعرفة مدى انطباق مضمونها كلياً أو جزئياً على أحكام الدستور.
وقد اعترف المجلس الدستوري اللبناني لهذه المعاهدات والمواثيق بقوة القانون، بل وبقوة دستورية، إذ جاء في أحد قراراته “من المعتمد أن هذه المواثيق الدولية، المعطوف عليها صراحة في مقدمة الدستور، تؤلف مع هذه المقدمة والدستور، جزءاً لا يتجزء وتتمتع معاً بالقوة الدستورية.
ويبدو أن سبب عدم اتخاذ قرار حاسم في هذا الشأن، هو أنه “لم تتم مراجعة المجلس الدستوري بشأن مخالفة أحكام المعاهدة لنص دستوري”.
ومما تجدر ملاحظته أن الحكومة البريطانية كانت لها اليد الطولى في وضع مشروع دستور العراق الملكي، فلقد أعد مشروع الدستور من قبل أحد موظفي وزارة المستعمرات البريطانية بالاشتراك مع المستر دراور مستشار وزارة العدلية العراقية، وبعد أن عرض المشروع على الملك فيصل قام بتقديمه إلى لجنة شكلت برئاسة ناجي السويدي وزير العدلية حينذاك وعضوية ساسون حسقيل وزير المالية، كما حضر الجلسات رستم حيدر سكرتير الملك ، وقد وجدت اللجنة أن بعض مواد المشروع لا يمكن الأخذ بها ، فوضعت حينئذ مشروعاً جديداً للدستور استوحت أحكامه من الدستور العثماني وبعض الدساتير الأجنبية الأخرى كالدستور الياباني، وقدم هذا المشروع الجديد إلى وزارة المستعمرات البريطانية، فأدخلت عليه بعض التعديلات التي رأتها ضرورية، وبعد ذلك شكلت لجنة دستورية ثانية برئاسة عبد المحسن السعدون وعضوية ناجي السويدي ورؤوف الجادرجي والمستر دراور، وقد قدمت هذه اللجنة مشروع دستور أقره مجلس الوزراء بعد أن أدخل عليه بعض التعديلات، ومن ثم أعلن مشروع القانون الأساسي العراقي في الصحف في شهر تشرين الثاني 1923.
أخيراً، نستنتج أن المعاهدات والاتفاقيات الدولية كانت تعد المجال الخصب لإعمال السيادة فلا يختص القضاء بالنظر في شرعية المعاهدة أو بعض نصوصها ودستورية إجراءات التصديق، وضرورة وأسباب عقدها بوصفها صادرة عن شخص من أشخاص القانون الدولي، وأن الحكم فيها من شانه إثارة المسؤولية الدولية تجاه الأطراف الأخرى، بمعنى أن القضاء الداخلي جعل مسألة التعارض بين المعاهدة الدولية والدستور من المسائل التي لا يمكن النقاش فيها بوصفها تندرج ضمن أعمال السيادة، ومن ثم تطبق المعاهدة في داخل الدولة وكأنه طبق مبدأ إلزامية الالتزامات الدولية وعلى القانون الدولي على الداخلي، الذي يجمع عليه غالبية فقهاء القانون الدولي لسبب ألا وهو: وصف عدم الدستورية بأعمال السيادة ومن ثم عدم اختصاص القضاء بالنظر بالمنازعات المتعلقة بالاتفاقات الدولية مع الدستور.
إلا أننا نقول: يمكن في هذا المجال الطعن بعدم دستورية المعاهدة وذلك من خلال الطعن بقانون تصديقها إذا ما منحت قوة القانون في دساتير الدولة التي أجازت التصديق عليها بقانون كالعراق مثلاً، فضلاً عن ابتعاد القضاء والمشرّع عن تحصين المعاهدة بحجة اعمال السيادة، وطالما تم إبرامها وفقاً للدستور، يكون من باب أولى أن تخضع له أو أن يؤسس ما توصّلنا إليه على مبدأ سمو المعاهدة على القانون الوطني على أنه نتيجة لما نصت عليه “اتفاقية فيينا” القانون المعاهدات وما أكده القضاء الدولي في العديد من أحكامه.
مصادر ومراجع:
1. رعد ناجي الجدة، التطورات الدستورية في العراق، بيت الحكمة، بغداد، 2011، ص 75.
2. عز الدين فودة، المعاهدات غير المتكافئة المعقودة وقت السلم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 2011، ص 106.
3. حسن عزبة العبيدي، تنظيم المعاهدات في دساتير الدول، رسالة ماجستير، كلية القانون، جامعة بغداد، 1988، ص 29.
4. زهير الحسيني، النظام القانوني للمعاهدات الدولية في الدستور العراقي، مجلة العلوم السياسية، العدد 44ـ، 2012، ص 67.
5. عصام عطية، القانون الدولي العام، دار السنهوري القانونية والعلوم السياسية، بغداد، 2015، ص 96.
6. المادة (52) من الدستور اللبناني لعام 1926.
نصت المادة (1) من قانون المجلس الدستوري اللبناني لعام 1993 على : “تنفيذ الأحكام المادة 19 من الدستور ينشأ مجلس يسمى المجلس الدستوري مهمته مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون”.
7. نصت المادة (18) من قانون المجلس الدستوري اللبناني على: تيتولى المجلس الدستوري الرقابة على دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون”.
8. نصت المادة (52) من قانون المجلس الدستوري على: “أما المعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب”.
9. إلياس جوادي، رقابة دستورية القوانين، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2009، ص 99.
10. إلياس أبو عيد، قضايا واجتهادات المجلس الدستوري، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2008، ص 69.
11. قرار المجلس الدستوري اللبناني رقم 2/2001 بتاريخ 10/6/2001. أشار إليه: إلياس أبو عيد، قضايا واجتهادات المجلس الدستوري، مرجع سابق، ص 69.
12. زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار بلال للطباعة والنشر، بيروت، 2001، ص 975.
“محكمة” – السبت في 2023/3/11

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!