السيادة: بين المفهوم والعوائق/سلام المقداد
سلام المقداد:
يشغل مفهوم السيادة حيزاً ملحوظاً وينال اهتماماً كبيراً على الساحة السياسية في دول العالم أجمع، حيث تقوم عليه الدولة الديمقراطية الحديثة بأركانها الثلاثة التي تشمل الشعب والإقليم والسلطة السياسية، ويترتب على ذلك تميزها بأمرين أساسيين؛ الأول هو تمتع الدولة بالشخصية القانونية الإعتبارية، في حين أن الأمر الثاني يرتبط بالسلطة السياسية ذات السيادة وهو الركن الثاني من أركان الدولة.
ويعتبر مبدأ سيادة الدولة أحد أهم المصطلحات القانونية وتعود أهميته في القانون الدولي العام إلى ارتباطها الوثيق بمفهوم الدولة التي لا بد أن يكون لها نظام قانوني يتولى إدارتها، أو سيادتها الداخلية أوالخارجية واللتان تعتبران وجهان لنفس المصطلح، ويعبران عن الطابع الأسمى لسلطة الدولة التي لا تقبل أي سلطة أخرى لا فوقها (الطابع الخارجي) ولا منافسة لها (المستوى الداخلي)، وبذلك تعكس سيادة الدولة الخارجية سيادتها الداخلية(1) . ولا بد وأن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بواقع المجتمع الدولي فكلما ازداد هذا المجتمع تنظيماً وترتيباً نال ذلك من سيادة الدولة التي يتكون منها هذا المجتمع.
لكن مصطلح السيادة منذ نشأته وحتى هذه اللحظة لم يكن مستقلاً عن الأوهام والنسبية والإرتباط بالمصلحة الخاصة، وذلك على جميع مستوياته، إذ يبدو كمبدأ “فضفاض” يتم تطويعه والتلاعب به تحقيقاً للمصالح الخاصة. واعتبره أستاذ العلوم السياسية “برتران بادي”، في كتاب “عالم بلا سيادة”؛ “إن السيادة مبدأ غامض، يستخدمه بطريقة متناقضة فاعلون من ذوي العقلانيات الأكثر تناقضاً، وعلى هذا فهي أولاً، وهم، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بدلاً من أن تلجأ إلى الواقعي فهي تلجأ إلى الخيالي، وتمنحنا بنياناً منطقياً يضفي على الحياة الدولية مظهر الترابط”(2) .
فمثلاً كان مبدأ السيادة على المستوى الداخلي لدى نشأته في أوروبا في القرون الوسطى، يتمسك به ملوك أوروبا للتملص من سيطرة البابا، ثم يتنكَرون لهذا المبدأ إذا تعلق الأمر بشعوبهم. أما على المستوى الخارجي، شهد العالم ألواناً شتى من أوهام السيادة رغم اعتماد ذلك المبدأ كأساس في القانون الدولي الذي يقضي بأن لكل دولة سلطة مطلقة مستقلة عن الدول الأخرى، إلاَ أن المبدأ امتزج برغبة الدول الكبرى في القيام بدور شرطي العالم تحت زعم المسؤولية الدولية، فانتهكت سيادة الدول الأخرى الأضعف.
فما المقصود بالسيادة وما هي خصائصها؟ وما هي الدواعي الدولية التي تبرر انتهاك مبدأ السيادة؟ هذا ما سنحاول معالجته من خلال هذه الدراسة عبر مبحث أول يتناول مفهوم السيادة (مطلب أول) وخصائصها (مطلب ثان) من ثم نتطرق إلى الدواعي التي تبرر انتهاك مبدأ السيادة في مبحث ثان نعرض من خلاله التدخل الدولي كمبرر لانتهاك مبدأ السيادة (مطلب أول) وخرق السيادة بسبب تزايد دور الهيئات والمنظمات الدولية (مطلب ثان).
المبحث الأول: ماهية السيادة وخصائصها
يثير موضوع سيادة الدولة الكثير من الجدل في أوساط الفقه والمهتمين بالقانون الدولي والعلاقات الدولية. ومنهم من يعتبر هذا المبدأ حجر الزاوية في بناء القانون الدولي، الأمر الذي يفسر استمراريتها، في حين يرى آخرون أن مفهوم السيادة قد تقادم ولا يتلائم مع التطورات التي عرفها المجتمع الدولي حيث أنه يساهم في حجب حقيقة الأشياء (3).
في القرن السابع عشر اعتنق بعض الفقهاء نظرية السيادة “المطلقة”(4) ، غير أن هذه النظرية انتقدت كونها غير موضوعية وقانونية، وكان الفقيه هيغل من أشرس المدافعين عنها إذ اعتبر أن الحق في إقامة الحرب هي التعبير الأقوى والأهم عن “السيادة”، وفي بداية القرن العشرين تم التخلي عن ” سيادة الدولة” تحت شعار القانون العالمي أو الحكومة العالمية (5) وقد اعتبر الفقيه مورللي من الداعين للتخلي عن مفهوم السيادة إذ اعتبر أنه “ربما كان مفهوم السيادة مفيداً في القرن الخامس، عشر أما اليوم فلم يعد له أي معنى”، إذ يعتبر أنه من الجدير إلغاء مفهوم السيادة كونه يشكل امتداداً مجرداً لمفهوم لم يعط أبدا تعريفاً واضحاً، ويظهر تناقضاً كاملاً مع تطور المجتمع الدولي وهوما يخالف بقوله هذا ما رآه الفقيه فان زنتن الذي اعتبر أن السيادة هي قاعدة مفيدة في نظام القانون الدولي الحديث وليس من داع لإلغائها.
يبدو أنه بالرغم من مجمل تلك النظريات أن مبدأ السيادة ظل قائماً كأساس للسياسة الداخلية والخارجية للدول، وأصبح مفهوم السيادة بمثابة مخرج تعتمده الدول العظمى لاستعمال القوة والتدخل بشؤون الدول الضعيفة تحت مسميات “التضامن وحماية المصالح الحيوية وتثبيت السلام ومناهضة الإرهاب، في حين أن الشعوب الضعيفة استخدمت هذا المفهوم في محاولة منها لحفظ حقها بتقرير المصير أو بالتحرر.
المطلب الأول : ماهية السيادة
إن مفهوم السيادة يمثَل أحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام الدولي على الرغم من أن المفهوم لم يكن محل اتفاق بسبب تغير المفهوم نظراً لاختلاف مضمونه باختلاف حالة تطور النظام الدولي. وبالذات منذ نشأة المنظمات الدولية التي بلورت فكرة التعاون الدولي من خلال تلك المنظمات ذات الطبيعة الدولية كعصبة الأمم المتحدة والأمم المتحدة. والتي شكَلت علامة فارقة في تطور مبدأ السيادة. وعليه سوف نتطرق لمفهوم السيادة لدى الفقهاء (أولاً)، ومن ثم نتعرف إلى ما أتت به التشريعات والمواثيق الدولية (ثانياً).
أولاً:مفهوم السيادة وفق الفقه
تعتبر السيادة من المفاهيم الأساسية في علم السياسة، فقد أثار المصطلح نقاش وجدل ويستعمل بصور متعددة، وتعني وجود في كل دولة مستقلة سلطة نهائية، وهذه السلطة هي العليا في كل الشؤون الداخلية والشؤون الخارجية.
إن تعريفات السيادة كثيرة، وهي تتعدد حسب المنطلقات الفكرية والظروف المحاطة بظهور التعريف السيادة، فمصطلح السيادة بالإنجليزية sovereignty كلمة مشتقة من اللفظ اللاتيني Superanus ومعناه “السمو” و”الأعلى”، وأول من استعمل الكلمة هو “جان بودان” (Jean Bodin 1530-1596) وأول مفكر يؤلف نظرية متناسقة عن السيادة.
من الواضح والمتفق عليه في الفكر السياسي، أن أهم ما كتبه “بودان” في الفلسفة السياسية هونظريته في السيادة. ويعتبر بودان أول من وضع دراسة نظرية متكاملة لمبدأ السيادة لا زلنا نعيش آثارها وتعاليمها حتى الآن. وكان اهتمام بودان بمبدأ السيادة نابع من محاولته لإيجاد قاعدة للسلام في عصر مزقته الخلافات الدينية والحروب الأهلية. مما دفع به لإيجاد فكرة السيادة كعلاج لحسم النزاع القائم ما بين السلطة الكنسية والسلطة الزمنية، حسماً خياره لمصلحة الأخيرة (6) .
أن السلطات في المجتمع كثيرة إلا أن السلطة ذات السيادة هي العلامة التي تميز الدولة عن جميع التجمعات الأخرى للدولة، وقد بلور بودان نظريته في السيادة التي هي أساس نظريته السياسية. وقد عرفها بأنها: “السلطة العليا التي يخضع لها المواطنون والرعايا، ولا يحد منها القانون”(7) .
ومن خلال تحليل هذا التعريف للسلطة العليا يرى بودان أن السيادة هي قوة تماسك الجماعة السياسية، وقوة اتحادها، وبدون هذه القوة تتفكك هذه الجماعة(8) .
أما الفقيه “ألتوزياس” فهو يعتبر أن الصفة التي تميز الدولة عن غيرها من التجمعات هي السلطة ذات السيادة. فأهم ناحية من نظرية ألتوزياس أنه جعل السيادة تكمن بالضرورة في الشعب باعتباره هيئة جماعية. ولا يستطيع الشعب التخلي عنها لأنها خاصية طبيعية مميزة لذلك النوع من الإرتباط. ويترتب على ذلك إذاً، أنه لا يمكن نقلها أبداً. فالسيادة لا تنتقل أبداً إلى حوزة طبقة أو أسرة حاكمة.
وانطلاقاً من نظرية السيادة فقد اعترف التوزياس بحق الشعب في مقاومة الاستبداد ودافع عن هذا الحق. وهكذا فإن ألتوزياس يرى بأن الحق بمقاومة الطغيان ليس ملكاً للأفراد بل لجماعة من الولاة العموميين وهم أوصياء يعينهم المجتمع للحفاظ على حقوق الجماعة (9) .
في حين اعتبر “جان جاك روسو” أن هناك تماثل كبير بين السيادة والإرادة العامة. فالسيادة هي ممارسة الإرادة العامة للمهام المنوطة بها. وهذا يعني أن السيادة الحقيقية هي سيادة الشعب المتمثلة بالإرادة العامة المكونة من اتحاد جميع الأفراد في العقد الإجتماعي. فإرادة صاحب السيادة هي السيادة نفسها، وتتمثل في سيطرة الجسم السياسي على جميع أعضاءه وفي تفاعلها مع الإرادة العامة (10) .
ونجد الفقيه “ستارك” معرَفاً السيادة: “بأنها البقية التي تملكها الدولة في نطاق الحدود التي يرسمها القانون الدولي”(11) .
أما “دوقي” فقد انتقد فكرة السيادة بقوله: “السيادة لا تلبي متطلبات القانون الدولي المعاصر وذلك لأنها لا تتفق واتجاهاته”. وكذلك انتقد الأستاذ “ورج سال” فكرة السيادة، مستخلصاً أن الذي يقوم مقامها هي فكرة الإختصاصات، والمهمة الرئيسية للقانون الدولي تتجه نحوإعطاء الإختصاص لأشخاصه وتقسيمها بينهم(12) .
أما “جون أوستن” وهو أهم روَاد النظرية الكلاسيكية للسيادة قد حدد السيادة على أساس أن الدولة نظام قانوني فيه سلطة عليا تتصرف بوصفها المصدر النهائي لقوة، ولقد تطورت المفاهيم المعنية بالسيادة وكذلك أشكال السيادة في ظل تطوَر التغيرات (اقتصادية، سياسية، اجتماعية وثقافية) الخاصة في المجتمع مما أثَر تأثيراً بالغاً في مفهوم الدولة ككل ومن ثم السيادة(13).
ويعتبر مبدأ السيادة الأساس الذي يحكم العلاقات بين الدول وأحد أهم الركائز والدعائم الأساسية للقانون الدولي العام، ولا يزال أحد المقومات الأساسية لنظرية الدولة وبذلك تعتبر السيادة مرادف لمصطلح الدولة في السياسة الدولية، فلا سيادة بدون دولة ولا دولة بلا سيادة.
أما الموسوعة السياسية فتعرف السيادة على أنها: “السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة وميزة الدولة الأساسية الملازمة لها، والتي تتميز بها عن كل ما عداها من تنظيمات داخل المجتمع السياسي المنظم، ومركز إصدار القوانين والتشريعات، والجهة الوحيدة المخولة بمهمة حفظ النظام، والأمن، وبالتالي المحتكرة الشرعية الوحيدة لوسائل القوة، ولها حق استخدامها لتطبيق القانون”(14) .
فإن السيادة: هي السلطة المطلقة غير المحدودة، التي تمارسها الدولة على رعاياها، وعلى جميع المنظمات التي يكونها الرعايا داخل الدولة.
ومن خلال تتبع التطور الذي شهده مفهوم السيادة، نستنتج أن هناك ثلاثة اتجاهات مختلفة بشأن هذا المفهوم، هي:
الإتجاه الأول: يمثله أنصار السيادة المحدودة أوالمشروطة مثل روسوولوك.
الإتجاه الثاني: يمثله أصحاب الرأي القائل بالسيادة المطلقة، وهذا ما دعا إليه جان بودان وتوماس هوبز
الإتجاه الثالث: يمثله الرافضون لفكرة السيادة والداعمون إلى إلغائها كما ذهب الإتجاه الماركسي(15) .
ثانياً:مفهوم السيادة وفق التشريعات والمواثيق الدولية.
احتل موضوع السيادة حيزاً مهماً في القانون الدولي المعاصر، خاصة في ميثاق الأمم المتحدة(16) ، الذي تناول العديد من المبادئ المهمة من بينها مبدأ المساواة في السيادة. بالإضافة إلى قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
1- ميثاق الأمم المتحدة وإعلانات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
نصت الفقرة الثانية من ديباجة ميثاق الأمم المتحدة على ما يلي: “إننا نؤكد إيماننا بحقوق الإنسان وبكرامة الفرد وقيمته، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية”(17) . وتضمنت المادة1/2 مبدأ إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها الحقفي تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام (18).
وفي المادة2/1 إشارة واضحة إلى مبدأ المساواة بين الدول في السيادة، حيث نصت على ما يلي: “تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها(19) .
وأشارت الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، إلى أن من مبادئ الأمم المتحدة “عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما”(20) . كما أبدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اهتماماً كبيراً بمبدأ عدم التدخل، ونددت بأعمال التدخل التي تهدد أسس السلام في العالم وتعكر صفوالعلاقات الدولية. وفي 21 كانون الأول عام1965، أصدرت الجمعية إعلاناً حول عدم جواز التدخل في شؤون الدول الداخلية وحماية استقلالها وسيادتها. وفي 24 تشرين الأول عام 1970 قامت بإعلان آخر يتمحور حول “مبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول، وفق ميثاق الأمم المتحدة”. وتضمن هذا الإعلان مجموعة من المبادئ كان أولها مبدأ امتناع الدول في علاقاتها الدولية، عن اللجوء إلى التهديد بالقوة أواستعمالها ضد سلامة الأراضي أوالإستقلال السياسي لكل دولة، أوبأي طريقة تتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة(21) . والمبدأ الثاني يتمثل بواجب عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم اختصاص الدولة الوطني. كما حظر هذا الإعلان كل تدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لأي دولة. إذ يعتبر أن كل تدخل سواء اقتصادي، سياسي أوثقافي مخالفاً للقانون الدولي، ومؤكداً في الوقت عينه على الحق الثابت لكل دولة في اختيار النظام الذي يلائمها من دون أي تدخل خارجي. وأكدت الهيئة على أن العلاقات بين أعضاء الهيئة يجب أن تقوم على احترام مبدأ المساواة في السيادة(22) .
2- المواثيق الإقليمية واللجان القانونية الدولية.
من بين المواثيق الدولية التي تطرقت إلى مبدأ السيادة هي ميثاق جامعة الدول العربية والتي نصت المادة الثامنة منه على أن “تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدول، حيث تتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها”. أما الميثاق الصادر عن منظمة الإتحاد الإفريقي فقد تطرق في مادته الثالثة، في البندين الأول والثاني، على “المساواة في السيادة بين جميع الدول الأعضاء”، وعلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء”. أما ميثاق منظمة الدول الأمريكية، نصت المادة 15 منه على أنه “لا يحق لأي دولة أومجموعة دول أن تتدخل مباشرة أوبصورة غير مباشرة، مهما يكن السبب، في الشؤون الداخلية لأي دولة”.
وبدورها قامت اللجان القانونية الدولية بإبداء مواقفها من مبدأ السيادة ومبدأ عدم مشروعية التدخل في معظم المشاريع المعدة من قبلها والتي أكدت من خلالها أن على كل دولة واجب الإمتناع عن أي تدخل في الشؤون الداخلية أوالخارجية لدولة أخرى، وعن إثارة الإضطرابات الداخلية في إقليم دولة أخرى. وصنفت في خانة الجرائم ضد السلام، التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية لدولة ما، بواسطة ضغوط اقتصادية أوسياسية بهدف التأثير في قرارها أوالحصول منها على منافع معينة. أما اللجنة القانونية التابعة لمنظمة الدول الأمريكية وضعت في العام 1959 دراسة مطولة تضمنت قائمة مفصلة بالحالات التي تعد خرقاً لمبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأعضاء الداخلية. ومن هذه الحالات: الأعمال التي تقوم بها دولة، مباشرة أوغير مباشرة، للإعتراض على تشكيل حكومة داخل دولة أخرى. أعمال الضغط التي تمارسها دولة لفرض إرادتها على دولة أخرى بقصد الإبقاء على أوضاع معينة فيها، أوفرض أمر واقع عليها، أوالحصول على مزايا وفوائد من أي نوع. الإعتراف غير المبرَر بحكومة معينة، خلافاً لقواعد التعامل المتعارف عليها في القانون الدولي العام.
3- قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
بالإضافة إلى مضامين ميثاق هيئة الأمم التي أكدت على احترام مبدأ المساواة في السيادة بين الدول، وعدم انتهاك سيادتها، اكتسى مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول أهمية بالغة في قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن أهم القرارات نجد:
– القرار رقم 2131 الصادر عام 1961 المتعلق بمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحماية استقلالها وسيادتها، حيث نص في فقرته الأولى على أنه ليس لأي دولة حق التدخل بصورة مباشرة أوغير مباشرة ولأي سبب كان في الشؤون الداخلية أوالخارجية لأي دولة. كما أشار أيضاً إلى عدم جواز استخدام أي تدبير لإكراه دولة أخرى على التنازل عن ممارسة حقوقها السيادية. وبفضل القرار رقم 2131 تمكنت عدة دول من التحرر من الإستعمار، كما أصبح مرجعاً يؤطر مبدأ عدم التدخل في القانون الدولي(23) .
– القرار رقم 2625 الصادر في 24 أكتوبر 1970، الذي أكد على مجموعة من المبادئ منها امتناع الدول في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة، ومبدأ فض النزاعات بالطرق السلمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية التي من صميم السيادة الإقليمية لدولة ما وفقاً لميثاق الأمم المتحدة(24) .
– القرار رقم 2734 الصادر في 16 دجنبر 1970 المتعلق بالإعلان الخاص بتعزيز الأمن الدولي(25) .
– القرار رقم 32/155 الصادر في 19 دجنبر 1977 المتعلق بدعم الإنفراج الدولي، حيث نصت مادته الخامسة على: “أن تمتنع الدولة عن التهديد بالقوة أواستعمالها، وأن تلتزم في علاقاتها مع الدول الأخرى بمبادئ المساواة في السيادة والسلامة الإقليمية، وعدم جواز انتهاك حرمة الحدود الدولية(26) .
– القرار رقم 39/103 الصادر في 9 دجنبر 1981 المتعلق بعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول(27) .
هذا وقد أسفر التطور والنمو الهائل في العلاقات الدولية إلى تغيرات جوهرية في القانون الدولي تجسدت عبر إبرام المزيد والعديد من الإتفاقيات التي أدت إلى تغير وتطور مبادئ وقواعد القانون الدولي وميدان حقوق الإنسان ما أدى بطبيعة الحال إلى تزايد القيود المفروضة على سيادة الدول.
المطلب الثاني: خصائص السيادة ومظاهرها
سوف نتطرق في هذا المطلب إلى الخصائص اللصيقة بمفهوم السيادة(أولاً) ومن ثم نتعرف إلى مظاهر السيادة(ثانياً)
أولاً: خصائص السيادة
من هذه التعاريف يمكن استنتاج مجموعة من الخصائص التي تتصف بها السيادة الدولة هي:
1- السيادة مطلقة: بمعنى أن السيادة لا يمكن أن تكون إلاَ مطلقة ذلك لأن على صاحب السيادة أن لا يخضع لأي إرادة أخرى. فهوالذي يضع القوانين ويلزم رعاياه بالخضوع لها حتى رغماً عنهم، ويعد لها حسب مشيئته دون أن يلزم نفسه بها. وبذلك تكون السيادة هي سلطة وضع وتجاوز القانون.
2- السيادة شاملة: أي تطبق على جميع المواطنين في الدولة ورعاياها وكذا المنظمات المتواجدة داخل حدود الدولة(28).
3- السيادة لا يتنازل عنها: بمعنى أن الدولة لا تستطيع التنازل عن سيادتها أو التصرف فيها لأن هذا يفقدها ركناً من أركان قيامها فيفقدها ذاتيتها، فالدولة والسيادة متلازمتان، ومتكاملتان. ومعناه أيضاً أن السلطة المؤقتة لا توصف بالسيادة(29) . ويعتبر روسوأنه إذا كان بإمكان السلطة أن تتنازل عن نفسها وتنتقل من هيئة لأخرى فإن السيادة لا يمكنها القيام بذلك(30). فطالما أن الإرادة العامة المتمثلة بإرادة الجماعة كلها هي سيدة نفسها، فلا يمكنها أن تخضع لأي طرف آخر. وبما أن صاحب السيادة هوالشعب فلا يمكنه أيضاً أن يتمثل إلاَ بشخصه(31) . ولا يمكنه أن يتنازل عن سيادة دولته، وإلاَ فقدت الدولة إحدى ركائزها الأساسية وبالتالي انعدمت السيادة.
4- السيادة دائمة: حيث السيادة قائمة طالما الدولة موجودة(32) ، بصرف النظر عن تغيير الأشخاص الذين يمارسون هذه السلطة، أي أن السيادة تدوم بدوام قيام الدولة، فإذا توقفت السيادة كان معنى ذلك نهاية الدولة(33) .
5- السيادة غير قابلة للتجزئة:لأن السيادة تتضمن عدم المشاركة والتقسيم، فلا يمكن أن يكون هناك أكثر من سيادة واحدة في الدولة. فالإرادة إما أن تكون عامة أولا تكون. وإما أن تكون إرادة مجموع الشعب أوإرادة جزء منه فقط. الأولى تعبر عن عمل سيادة لها قوة القانون، والثانية لا تعبر إلا عن إرادة خاصة مختلفة. إذن تقسيم السيادة ليس سوى قضاء عليها(34). وعليه فإن السبب الذي جعل السيادة غير قابلة للتنازل هوذاته ما جعلها غير قابلة للتجزئة.
6- السيادة لا تكتسب بمرور الزمن (التقادم المكسب) ولا تسقط بمرور الزمن(التقادم المسقط) فهي لا تنتقل من دولة لأخرى إلاَ في حالة توقيع الدولة مالكة الإقليم المغتصب معاهدة صلح بضم الإقليم مع الدولة المغتصبة. وقد قررَت محكمة العدل الدولية في الحكم الصادر في قضية “مضيق جبل كورفو” أن احترام السيادة الإقليمية فيما بين الدول المستقلة يعد أساساً جوهرياً في العلاقات الدولية(35) .
كما أن مفهوم السيادة ينطوي على بعدين أومدلولين أساسيين:
أحدهما قانوني: يشير إلى مبادئ القانون الدولي التي تجعل من أعضاء الجماعة الدولية على قدم المساواة في التمتع بالحقوق والواجبات.
وآخر سياسي: ينصرف إلى ما يسميه “روبرت جاكسون” “بالسيادة الفعلية” التي تعبر عن القدرة الفعلية للدولة على بسط نفوذها وإحكام سيطرتها داخل حدودها الإقليمية، ورفض الإمتثال لأية سلطة أجنبية عبر الصمود أمام كل أشكال الضغوطات والتدخلات الخارجية ومن ثم القدرة الفعلية على تأكيد الذات في المجال الدولي بشكل حر وسيد.
وعليه، فإذا كان المفهوم القانوني للسيادة يعبر عن مجموعة من القوانين والأعراف الدولية، إذ يكفي انضمام الدول إلى الأمم المتحدة حتى تتمتع بصفة السيادة التي تجعلها على قدم المساواة مع الدول الأخرى المكونة للأسرة الدولية، فإن المفهوم السياسي للسيادة تخضع لموازين القوى الدولية وإلى القدرة الفعلية للدولة على التأثير في المسرح الدولي، ومن هنا يظهر التقاطع والتلاقي الموجود بين المفهوم السياسي للسيادة، وما يطلق عليه بمفهوم القوة في علم العلاقات الدولية. ومن هذا المنطلق هناك عدد غير قليل من دول العالم الثالث ممن يتمتع بالسيادة القانونية، ولكنها تفتقر إلى المفهوم السياسي الذي يعبر عنه بالسيادة الفعلية، ذلك أن موازين القوى الدولية ليست في صالحها(36) .
وبالتالي فإن الدول لا بد وأن تتمتع بالحقوق والمزايا الكامنة في سيادتها فهي تستطيع على المستوى الخارجي، إبرام الإتفاقيات والمعاهدات الدولية وتبادل التمثيل الدبلوماسي والقنصلي وإثارة المسؤولية الدولية، أما داخلياً فتمنحها خاصية السيادة حق التصرف بمواردها الأولية وثرواتها الطبيعية، كذلك تمنحها الحق باتخاذ كافة التدابير حيال الأشخاص المتواجدين على أرضها سواء أكانوا مواطنين أوأجانب.
فالدول متساوية بين بعضها والمساواة التي نقصدها هي المساواة القانونية، فليس هناك امتياز أوتدرج بالسيادات، أي أن الحقوق والواجبات الملقاة على دولة هي نفسها الملقاة على أخرى، وعلى كل دولة واجب الإلتزام والتقيَد بها إذ أن اختلاف الكثافة السكانية أوالجغرافية أوالموارد الإقتصادية في كل دولة لا يؤثر على المساواة بين الدول(37) . غير أن هذا المبدأ الذي أقره ميثاق الأمم المتحدة ليس مطلقاً وذلك انطلاقاً من بعض الحقوق التي منحت لدول دون أخرى ومنها “حق النقض” وحق تعديل الميثاق، الذي تتمتع به الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن دون الدول الأعضاء الأخرى(38) .
ثانياً: مظاهر السيادة
طالما ارتبط مفهوم السيادة بالدولة، لا بد من التطرق إلى مظاهر السيادة باعتبار هذه الأخيرة السلطة العليا التي تمكن الدولة من إدارة شؤونها داخل إقليمها أوفي إطار المعاملات الدولية والخارجية، وبذلك فإن السيادة تتمتع بمظهرين اثنين اساسيين، هما السيادة الداخلية والسيادة الخارجية.
– السيادة الداخلية: وهذا المظهر الداخلي للسيادة يتمثل في أن تكون سلطة الدولة على إقليمها مطلقة وصاحبة السلطة العليا في تيسير شؤونها الداخلية، وهي السلطة الآمرة التي تتمتع بالقرار النهائي، وأي سلطة أخرى لا تعلوعليها في فرض إرادتها على المواطنين وكافة الهيئات والمؤسسات القائمة على إقليمها، وهوما يبرر احتكارها لأدوات القوة اللازمة لتمكنها من القيام بوظائفها في التشريع والقضاء وكافة السلطات، فالسيادة تعني الإستقلال(39) .
– السيادة الخارجية: وهي الوجه الخارجي للدولة، أي إدارة الدولة لشؤونها الدولية مع الدول الأخرى دون الخضوع إليها، أي انضمام الدولة إلى تحالفات من خلال إبرام معاهدات واتفاقيات ودخولها في منظمات دولية، وأن لها الحرية في إقامة علاقاتها مع أي كيان دولي خارجي دون قيد أوتدخل في شؤونها على أساس المساواة في السيادة، فينتج عن ذلك تمتعها بالإستقلال وعدم خضوعها لأي دولة أخرى. وحول هذا الموضوع يقول اسبينوزا: “تكون المدينة مستقلة عندما تستطيع أن تحافظ على ذاتها وأن تقاوم الإضطهاد وتكون تابعة لغيرها عندما تعيش على الخوف من جبروت مدينة أخرى.”(40)
ويعتبر البعض(41) أن الفرق بين مظهري السيادة الداخلية والخارجية إن السيادة الداخلية تمثل السلطة العامة داخل حدود الدولة فيما يتعلق بتنظيم العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات وباعتبارها صاحبة الحكم فيما ينشأ بين هؤلاء من خلافات أوصراعات. في حين تشير السيادة الخارجية إلى الحقوق المكفولة للدولة في المجال الدولي الخارجي، إذ تستطيع أن تدخل في علاقات ومواثيق ومعاهدات بين الدول الأخرى وفقاً لقواعد القانون الدولي العام، وعلى هذا الوجه تعتبر فكرة استقلال الدولة السياسية أساس قيام السيادة الخارجية.
المبحث الثاني: الدواعي الدولية لانتهاك مبدأ السيادة
يشتمل هذا المبحث على مطلبين تناولا التدخل الدولي كمبرر لخرق السيادة، حيث تم التطرق للتدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان والأقليات ورعايا الدول والتدخل الدولي لتحقيق مقاصد الأمم المتحدة ومكافحة الإرهاب الدولي. وخرق السيادة بسبب تزايد نفوذ ودور الهيئات والمنظمات الدولية. وأثر كل ذلك على استقرار الدولة وسيادتها.
المطلب الأول: التدخل الدولي كمبرر لانتهاك السيادة.
التدخل الدولي هو مفهوم قديم حديث في آن واحد، وهوقد ظهر بالأساس في منتصف القرن التاسع عشر، في إطار ما عرف بحماية حقوق الأقليات وبعض الجماعات العرقية الأخرى. ويمكن القول بأن التدخل الدولي يشير قيام دولة معينة بإقحام نفسها بالتدخل في شؤون دولة أخرى، مخالفة بذلك القانون الدولي.
وبالرغم من وجود العديد من التعريفات لمفهوم التدخل إلا أنه لم يتفق على تعريف موحد له، ولعل أبرز الفقهاء الذين عرفوا التدخل الدولي هم “روجير، المفكر ماريوبتاتي، والفقيه الفرنسي الكولومبي إيبز، روسووتوماس كارولي”، واتفقت معظم تعريفاتهم على “أن التدخل يعني قيام دولة أومنظمة دولية بتصرفات مباشرة أوغير مباشرة من شأنها المساس بسيادة الدول أواختصاصاتها الداخلية أوالخارجية دون مبرر قانوني لذلك”(42) .
أما الأستاذ ستاول فقد عرف التدخل بأنه “اللجوء إلى إجراءات القوة سواء كان بالفعل أوبأسلوب التهديد بهدف الوصول لتبني الدول الأخرى نهجاً بالتصرف أوبإنهاء القتال أونشاطات أخرى غير مرغوب فيها”.
لم تكن فكرة حماية الإنسان من الويلات والآفات والأعمال غير الإنسانية وليدة العصر الراهن بل كانت موجودة منذ العصور القديمة، لكن ربط النزاعات بالأعمال غير الإنسانية برز في نهاية القرن السادس عشر، كما أن تطور المهام والمسؤوليات الموكلة للأمم المتحدة زاد من أهمية حماية الحقوق والحريات الأساسية للإنسان. وقد أصبح مبدأي السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول في القانون الدولي المعاصر، مقيَدة بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب والأفراد، بحيث لا يمكن النظر إلى الجهود التي يبذلها المجتمع الدولي والدول منفردة لضمان احترام الحقوق والحريات الأساسية في شتى أنحاء العالم على أنها تشكل تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول(43) . وبذلك لم يعد التدخل مقصوراً فقط على الدول وإنما امتد ليشمل المنظمات الدولية التي أصبح لها دور فاعل في التدخل الإنساني على اختلاف أنواعه وأشكاله.
أما من حيث الأشخاص الذين يتم التدخل لحمايتهم، فلم يعد التدخل مقصوراً على طائفة من الأشخاص الذين تربطهم بالدولة المتدخلة خصائص مشتركة أو علاقة قرابة، إنما امتدت لتشمل كل فرد بوصفه إنسان دون أي اعتبار بسبب العرق أوالجنس أو الدين.
من ناحية أخرى لقد دعى ميثاق الأمم المتحدة إلى ضروروإشاعة إحترام حقوق الإنسان والسعي إلى تعزيزها، فأضيفت إلى الحقوق المذكورة ( الحق في الحياة،الحرية والمساواة) طائفة الحقوق السياسية والإقتصادية والثقافية، وهوما أكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أرسى نظاماً عالمياً لحقوق الإنسان يتيح لكل فرد حق التمتع بكافة حقوقه، وفي حال انتهاكها فإن القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني يعملان على إعادة الوضع إلى نصابه.
في ظل “النظام العالمي الجديد” أصبح القانون الدولي إحدى أدوات اختراق حرمة الإختصاص الداخلي والوسيلة المثلى للحد من السيادة. ولقد كتب براين أوركارت تحت عنوان “تألم السيادة”: “إن الكثير من التطورات في عصرنا أصبحت تتحدى مصداقية مبدأ سيادة الدولة، ونحن نعيش اليوم مرحلة نموالإعتماد المتبادل الشامل، ذلك أن الإهتمام بآلام الإنسانية وبحقوق الإنسان كان عادة ما يتوقف في الماضي عند الحدود”.
وانطلاقاً من مبدأ سيادة الدولة التي تتجذر في ارتباطها بفكرة الإختصاص الإقليمي ليأتي المبدأ المصاحب والمكمل لسيادة الدولة وهو مبدأ عدم التدخل.
أما الشؤون الداخلية والتي يعبر عنها بالمجال المحفوظ فقد عرفه الفقه الدولي بأنه : “ذلك الذي تكون فيه أنشطة الدولة أواختصاصاتها غير مقيدة بالقانون الدولي”(44) ، وبالتالي فإن المجال الخاص للدولة يتقلص كلما توسعت التزاماتها ذات الطبيعة التعاقدية أو العرقية. وأيضاً كلما انخرطت الدول في علاقات منظمة قانوناً مع الأشخاص الآخرين في المجتمع الدولي كالتزامها بالإتفاقيات المتعددة الأطراف، فيؤدي ذلك إلى تنازل الدولة بمقتضى التزانها عن بعض الإختصاصات التي كانت تندرج سلفاً ضمن المجال المحفوظ. وهذه الممارسة لا تنقص في الواقع من سيادتها بقدر ما تعبر عن تلك السيادة.
ولكي نحدد مفهوم عدم التدخل، لا بد أولاً من تحديد مفهوم التدخل، بيد أن هذا الأمر ليس من السهولة تحديده، لأن التدخل وصف ينطبق على مجموعة من الأنشطة، مثل التهديد بالقوة، تهديد السلام وانتهاكه، استخدام القوة، العدوان، وإذا كان ذلك يوحي بأن التدخل في أوصافه السابقة، إنما يحمل طبيعة القسر باستخدام القوة المسلحة، فإن هناك أشكالاً أخرى يمكن اعتبارها تدخلاً، رغم أنها لا تنطوي على استخدام القوة المسلحة، فضلاً عن أن مسألة تفسير الأنشطة السابق ذكرها يختلف اتساعها، بحيث يمكن الإدعاء بالتدخل، انطلاقاً من بعض العبارات ذاتها (كاستخدام القوة) بحيث لا يقتصر معنى القوة على القوة العسكرية، أوالقوة المسلحة وإنما يتجاوز هذا الوصف إلى أنواع أخرى كالقوة الإقتصادية، وما يرتبط بها من عدوان أو تدخل إقتصادي مثلاً.
إن مفهوم التدخل لتسوية النزاعات الدولية في القانون الدولي يرتبط بفكرة “التعرض” فعندما تتدخل دولة في شؤون دولة أخرى وتنتهك سيادتها، فإن ميثاق الأمم المتحدة يحظر هذا التدخل بموجب المادة (7/2)، التي تنص على عدم جواز “تدخل الدول في قضايا تقع أساساً ضمن إطار الإختصاص المحلي لأي دولة”. ويهدف هذا المبدأ إلى المحافظة على استقلالية الدول الضعيفة ضد تدخلات وضغوط الدول الأقوى. ونجد أن معظم النزاعات التي يتم التدخل لتسويتها تعود إلى السطح مرة أخرى وتندلع من جديد من الناحية العملية(45) .
وقد اعتبر البعض أن مفهوم الحق في التدخل بأنه عملية ضغط وإكراه تمارسه منظمة دولية إقليمية، أويأخذ شكل تحالف لجمع عدد من الدول أوحتى من جانب دولة واحدة فقط، بقصد إجبار الدولة المتدخل فيها على القيام بعمل ما، أوالإمتناع عن القيام به أوالعدول عن إجراءات معينة تعدها الدولة أوالدول المتدخلة إجراءات تعسفية ضد رعاياها.
كما يعد الحق في التدخل سلوكاً خارجاً عن المألوف يكون هدفه المعلن أغطية وشعارات إنسانية وأمنية وبيئية تغلف جميعها آليات إدارة الصراع الدولي التي تشكل حقيقة الهدف من وراء التدخل، وهو تحقيق مصالح سياسية وإقتصادية وعسكرية(46).
لقد لقيت مسألة التدخل الدولي رواجاً كبيراً في المجتمع الدولي خاصة مع الإهتمام المتزايد بمسألة حقوق الإنسان، كما حظيت باهتمام كبير من طرف المهتمين بالشؤون والعلاقات الدولية، بسبب صلتها المباشرة بمبدأين من مبادئ القانون الدولي، هما مبدأ سيادة الدولة ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، باعتبارهما المبدأين اللذين يشكلان عائقاً أمام المتدخل وما يلقاه من اعتراض من قبل المجتمع الدولي لأنه يمس بسيادة الدول، خاصة عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة العسكرية.
وقد تنوعت واختلفت مبررات التدخل الأجنبي ومن ذلك مثلاً، التدخل لاعتبارات سياسية، والتدخل لحماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات العرقية، والتدخل بدعوى مقاومة الإرهاب الدولي، ولعل أبرز الموضوعات التي تثار في هذا الصدد عدم وجود معايير واضحة للتدخل الدولي مما أتاح للدول الحق في أن تقرر الأخذ بما تراه على أساس مصالحها في كل حالة على حدة، أي بصورة انتقائية على مقتضى مصالحها، وهوما يؤدي إلى ما يعرف بمشكلة ازدواجية المعايير أوبسياسة “الكيل بمكيالين”.
المطلب الثاني: خرق السيادة بسبب تزايد دور الهيئات والمنظمات الدولية
المنظمات الدولية هي هيئات دائمة لها اختصاصات محددة، تتمتع بإرادة ذاتية وشخصية قانونية دولية، تنشئها مجموعة من الدول بموجب اتفاقية دولية، كوسيلة من وسائل التعاون الإختياري فيما بينهم، لتحقيق أهدافها ومصالحها المشتركة من خلال أجهزة دائمة(47) . كما أن نشأة وتطور المنظمات الدولية يعبر عن تطور المجتمعات على المستوى الدولي.
وتتمتع هذه المنظمات وفقاً للرأي الغالب في الفقه والقضاء بالشخصية القانونية الدولية والداخلية. ويلعب مجلس الأمن الدولي كأداة تنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة دوراً محورياً في حفظ الأمن والسلم الدوليين. كما يتبوء مجلس الأمن مكانة مرموقة بين أجهزة الأمم المتحدة، باعتبار الجهاز صاحب الإختصاص الأصيل بتحقيق المقصد الأساسي للأمم المتحدة وهو حفظ السلم، والتي يملك بشأنها سلطة إصدار قرارات تنفيذية ذات قوة قانونية ملزمة، لا يتوقف نفاذها على قبول الدولة التي صدر بشأنها هذه القرارات(48) .
هذا وقد نصت الفقرة الأولى من المادة الرابعة والعشرين من ميثاق الأمم المتحدة على أنه: “رغبة في أن يكون العمل الذي تقوم به الأمم المتحدة سريعاً وفعالاً، يعهد أعضاء تلك المنظمة إلى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدولي ويوافقون على أن هذا المجلس يعمل نائباً عنهم في قيامه بمسؤولياته التي تفرضها عليه هذه التبعات، بالإضافة إلى ذلك خوله الميثاق_ بمقتضى الفصل السابق اتخاذ إجراءات منع وقمع أي دولة تهدد السلم والأمن الدولي أوتخل به أوتمارس عملاً من أعمال العدوان. وقد تعهد أعضاء الأمم المتحدة بموجب نص المادة الخامسة والعشرين من الميثاق بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق هذا الميثاق(49) .
كما تعتبر مسألة تحسين الظروف المالية والإقتصادية للدول من أهم وسائل تحقيق السلم الدولي مثلها في ذلك مثل تحسين ظروف معيشة الأفراد الذي يمثل حجر الزاوية في الإستقرار الداخلي للدول. وتحسين الظروف المالية والإقتصادية للدول يقتضي مجموعة من القواعد العادلة للتجارة الدولية وتقديم المساعدات المالية، بالإضافة إلى العمل من أجل تحقيق قدر من التقارب في التنمية بالنسبة للبلاد الآخذة في النمو. وانطلاقاً من هذا ظهر التنظيم الدولي في المجال الإقتصادي والمالي، حيث أنشئت العديد من المنظمات المتخصصة ذات الطابع الإقتصادي والمالي والتي تتمثل في المنظمات التالية: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي للإنشاء والتعمير، مؤسسة التمويل الدولية، هيئة التنمية الدولية، منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة العالمية وغيرها من المنظمات المالية الداعمة التي يمكن أن تنفذ إلى سيادة الدول من خلال حاجة الدول لهذه المنظمات.
لكن ثمة انتقادات وجهتها كثير من دول العالم لما يحمله هذا الإتجاه من مقاصد تفتيتية مغرضة تستهدف كيانات الدول وتدفع إلى مزيد من التشرذم بين الدول وتهديداً لاستقلالها السياسي ووحدتها الوطنية انسجاماً مع تجليات العولمة ومؤسساتها الإقتصادية وكذلك الإستفادة من القدرات التكنولوجية المتفوقة في مجال الإتصالات والمعلومات لتحقيق الإختراق الثقافي بغية إضعاف المجتمعات وخلق المواطن العالمي وإحلال المؤسسات العالمية لتحل محل الدولة القومية، وهوما يفسح المجال للدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية للتفرد في تقرير أمور السياسة الدولية والهيمنة على الشعوب وتفتيتها بحجة تمكينها من ممارسة حقوقها. وهوما قد تعمد إليه هذه الدول من خلال المنظمات الدولية ومؤسساتها وتغليفه بالشرعية والقوانين الدولية محولة بذلك مفاهيم العلاقات الدولية ومنها السيادة والتدخل في الشؤون الداخلية والوحدة الوطنية.
هذا التطور الذي يشهده العالم منذ مطلع عقد التسعينيات وحتى الآن أدى إلى إزاحة الدولة وسيادتها عن عرشها الذي تربعت عليه زمناً طويلاً، فلم تعد الدولة هي الفاعل أواللاعب الوحيد أوالرئيسي في النسق الدولي وإنما راحت تتوارى شيئاً فشيئاً مفسحة المجال أمام لاعبين جدد تعاظمت أدوارهم إلى الحد الذي بات يطغى على دور الدولة القومية. ويتمثل هؤلاء اللاعبين الجدد في الشركات المتعددة الجنسية أوعابرة القومية وكذلك المنظمات غير الحكومية إلى جانب المنظمات الدولية التي تعاظم دورها واتسعت مجالاتها وتزايدت صلاحياتها واختصاصاتها ولاسيما تلك المنظمات الدولية فوق القومية كالإتحاد الأوروبي على سبيل المثال.
ويمكن القول إن تراجع دور الدولة القومية وتضاؤل دورها قد هيأ إلى نشر أوتوزيع مهام الحكم التي كانت تضطلع بها الحكومات وحدها على عديد من جهات أومستويات أدنى من الدولة أوأعلى منها ويتمثل ذلك فيما يلي:
– إن تزايد دور المنظمات الدولية العالمية أوالإقليمية المتخصصة كمنظمة الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تعمل على إرساء قواعد ونظم للتعامل الدولي في العديد من المجالات جعل منها كيانات فوق إقليمية تتمتع بدرجة كبيرة من الذاتية والإستقلالية، بالإضافة إلى امتلاكها رؤوس أموال عالمية توظفها في تحقيق عملياتها وأهدافها على مستوى العالم، بالإضافة إلى ضلوعها بالمجال السياسي عبر الجهود الدبلوماسية التي يضطلع بها ممثوها ومبعوثيها فيما يرتبط بالتسويات السلمية للمشكلات الدولية كالصراع العربي الإسرائيلي، بالإضافة إلى عملها على حماية حقوق الإنسان ومراقبة العمليات الإنتخابية في العديد من الدول.
– إرساء نظم دولية جديدة في مجال العلاقات الدولية وهي مجموعة من المبادئ الضمنية أوالصريحة، وكذلك آليات صنع القرار وأنماط السلوك التي تلتقي عليها مجموعة من الدول ومن أبرزها الإتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركية(50) .
– تزايد الدور الذي تلعبه بعض الهيئات الداخلية أودون الدولية في العلاقات الدولية على نحويتجاوز أحياناً الدور الذي تمارسه الحكومات المركزية ذاتها.
– تزايد دور الهيئات فوق الدولية أومتعددة القومية فعلى سبيل المثال من الملاحظ أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد وسعا من نطاق نشاطهما الأصلي ليشمل التدخل في توجيه السياسات والبرامج الإقتصادية في العديد من الدول بدعوى تحقيق الإستقرار الإقتصادي من خلال ما يعرف ببرامج التكيف الهيكلي التي تفرض على الدول الأخذ بسياسات معينة، الأمر الذي تعدى مجرد اقتراح السياسات إلى حد إرسال مبعوثين أومراقبين وهوما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الوصاية الدولية الجديدة.
– النمو الهائل في قوة الشركات متعددة الجنسيات والتي بيدها مقاليد الإقتصاد سواء من حيث رؤوس أموالها أومن حيث حجم عملياتها أوعدد العاملين فيها وفروعها المنتشرة في العالم، الأمر الذي يساهم في الإختفاء التدريجي للحدود، لأن الدولة لا تملك أية وسيلة لمنع اختراق حدودها و”انتهاك” سيادتها الإقليمية(51) .
– تزايد حدة النزعة الأوليجارشية على مستوى النسق العالمي، إذ باتت الولايات المتحدة هي القطب الأوحد، الأمر الذي جعل من هذه الأخيرة المهيمنة والمسيطر والمتحكمة في مجريات الأحداث العالمية على نحوغير مسبوق، مما هيأ لها هيمنة عالمية طاغية(52) .
يمكننا أن نخلص إلى أن العالم يشهد حالياً ما يمكن تسميته بحكومة الثمانية الكبار أو ما يعرف بمجوعة الثمانية G8 والتي تضم الدول الصناعية السبع الكبرى، مما أتاح لهذه الدول القول والفصل في توجيه دفة الشؤون الدولية، وفقاً لما تقضي بها مصالحها بطبيعة الحال، كما غني عن البيان القول بأن غياب عنصر التوازن الإستراتيجي في الوضع الراهن للنسق العالمي، كان من شأنه انحراف القوى الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة عن جادة الإعتدال في سياستها الخارجية، فراحت تضرب بعرض الحائط بآعتبارات الشرعية الدولية بل وبالشرعية الدولية أيضاً، مما أفقدها مصداقيتها كزعيمة للمعسكر الحر على المستوى العالمي، بعد أن ظلت لعقود طوال ترفع لواء الحرية وتتشدق بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.
يبدو أن التدخل الإنساني لا يؤثر بشكل كبير على السيادة عندما يكون مقصوراً على التزويد بالمواد الغذائية والطبية أوحتى إيفاد بعض المدنيين لمعالجة أوضاع الكوارث المستعصية، غير أن الأمر يختلف عندما يتعلق الأمر بتدخل قوة مسلحة لمنع بعض خروق حقوق الإنسان. فإن نشوب حرب كوسوفو وتذرع حلفاء شمال الأطلسي بأنها حرب أخلاقية الهدف منها القضاء على سياسة التطهير العرقي ومنع الحكام الديكتاتوريين من ارتكاب الأعمال الوحشية لبقائهم في السلطة، وإذ تبرر الأمم المتحدة بأنها حرب من أجل القيم وليس من أجل الأرض، إلا أن هذه الحرب الأخلاقية هي ذات مفهوم نسبي وينطوي على ازدواجية المعايير، فكيف أن هذه الدول لم تفكر بالتدخل في بلدان أخرى رغم وجود اعتبارات مماثلة، والأمثلة على ذلك عديدة ومنها إبادة الجنس البشري بأبشع الصور في رواندا وسيراليون وليبيريا والكونغو؟
ما سبق يقود إلى القول بأن الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية تحاول استخدام آلية حقوق الإنسان وحماية الأقليات تحت واجهة التدخل الإنساني من حيث كونها آلية لسحب خيوط النسيج الوطني لكل دولة لا تنتهج طريقها ومشروعها، وذلك تكاملاً وانسجاماً مع الآليات الأخرى السياسية والإقتصادية والعسكرية واتخاذ الأمم المتحدة وأجهزتها الفرعية من أجل إيجاد التبريرات المقنعة والمقننة داخلياً وخارجياً لتمرير حق التدخل الإنساني.
نخلص إلى التأكيد على وجوب احترام سيادة الدولة حتى في ظل الإضطرابات والنزاعات والمتغيرات الدولية والتي تؤثر بصورة واضحة ومباشرة على سيادة الدولة وتؤدي إلى تراجعها وتقييدها. وإن تزايد دور الهيئات والمنظمات الدولية يلقي بظلاله على سيادة الدول، كما أن التدخل الدولي بصوره وأشكاله المختلفة على الرغم من أهميته وشرعيته التي أصبحت محل اعتراف الكثير من فقهاء القانون الدولي ، إلا أن له انعكاسات وآثار سلبية مباشرة على سيادة الدول واستقرارها، ومن ثم على الأمن والسلم الدوليين خاصة عندما يستخدم بصورة منفردة لتحقيق أهداف غير معلنة.
لذلك يجب وضع ضوابط وقيود تنظيمية للمنظمات والهيئات الدولية ودورها المتعاظم في ظل التحولات الدولية، كما يجب وضع آليات للحد من التدخل الدولي صيانة لسيادة الدول وأمنها القومي.
وقد توصلت الدراسة إلى نتائج وتوصيات متعددة تمثلت في الآتي:
النتائج:
– إن مبدأ السيادة من المبادئ الثابتة والمستقرة في القانون الدولي ويعد مبدأً عاماً يجب احترامه من جميع الدول، وأن السيادة الوطنية تتأثر بشكل أوبآخر بالمصالح الوطنية العليا التي تفرض التعاون والتداخل في المصالح الدولية الأخرى ودون أن يكون لذلك تأثير في مبدأ السيادة وإن كان ظاهره تنازل عن جزء من سيادة الدولة، إلا إن سيادة الدولة لا تعني عدم مراعاة مصالح الدول الأخرى بل على العكس أحياناً ما دام ذلك لم يؤثر على المقومات الأساسية للسيادة.
– إن المفهوم القانوني للسيادة يتعلق بالدولة وهويعني الإستقلال الوطني للدولة ومساواتها مع الكيانات السياسية الأخرى المشكلة للنظام الدولي، أما المفهوم السياسي يتعلق بقدرة الدولة الفعلية في فرض هيبتها داخلياً ودولياً، وعليه لا بد من توافر المفهومين القانوني والسياسي للقول بتمتع الدولة بالسيادة.
– إن مستقبل السيادة الوطنية بمفهومه القديم سيتلاشى تدريجياً في ظل المتغيرات الدولية الراهنة لصالح الدول العظمى والهيئات والمنظمات الدولية ومؤسسات الحكم العالمي كهدف استراتيجي للحكومة العالمية.
– إن المجال الخاص بسيادة الدول يتقلص كلما اتسعت العلاقات الدولية للدولة مع مع الأشخاص الآخرين في المجتمع الدولي (اتفاقيات حقوق الإنسان، حفظ السلام)، وبمقتضى هذه الإلتزامات تضطر الدولة إلى التنازل عن بعض الإختصاصات المدرجة ضمن أنظمتها السيادية لصالح مؤسسات دولية أوتنظيمات إقليمية، وهي في هذه الممارسة تعبر عن تلك السيادة ولا تنتقص واقعياً منها.
– إن تشريع التدخل وقوننته بصوره وأشكاله المختلفة دون وضع ضوابط وقيود تنظيمية عليه سيؤدي إلى تضييق السيادة الوطنية للدول إن لم يؤدي أيضاً إلى تقويضها، ومن ثم يؤدي إلى جعل التدخل الدولي أداة في يد الدول العظمى لتحقيق أهدافها غير المعلنة مما يؤدي إلى إضعاف سيادة الدول.
– إن تزايد وتوسع نفوذ الهيئات والمنظمات الدولية، قد كرست لحق التدخل الدولي بأنواعه المختلفة والذي نتج عنه مضاعفات خطيرة على مفهوم السيادة الوطنية، مما جعلها قضية نظرية أكثر من كونها واقعية، وأفرغها من محتواها التقليدي المعروف إلى البعد النسبي أوما يعرف بالسيادة المحدودة أوالمقيدة بأداء الإلتزامات الدولية.
التوصيات:
– تقتضي الظروف الدولية الراهنة إعادة النظر بمفهوم السيادة بحيث يكون أكثر واقعية لناحية مواكبته للمتغيرات الدولية والسياق الدولي المعاصر، ولتعزيز قدرة الدولة على تدبر أمور علاقاتها في الإطار الدولي على النحوالذي يكفل ويضمن لها سيادتها ومصالحها الإستراتيجية.
– يجب على الدولة مراعاة المعايير الدولية وقواعد القانون الدولي الإنساني المتعلقة بحقوق الإنسان ومصالح ورعايا الدول الأخرى لأجل المحافظة على سيادة الدولة ومنعاً لأطماع الدول من التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
– ينبغي التمسك بإلزامية المواثيق التي ترفض التدخل الدولي بقرار منفرد بشؤون دولة أخرى باستثناء حالة الدفاع الشرعي المرتكز على المحافظة على الأمن والسلم الدوليين.
– يجب على المجتمع الدولي محاربة التدخل الإنتقائي بشؤون الدول الذي قد يحمل في طياته نوايا غير معلنة.
– على الدول إجراء الإصلاحات الدستورية لمواكبة التطورات ومتغيرات البنية المجتمعية والظروف الدولية لأجل المحافظة على أمن الدول القومي وسيادة أراضيها.
– تعميق الحس الوطني لدى أبناء الشعب وحث المواطن على التمركز حول الوطن والقانون إلى درجة التفاني والتضحية من أجل البلد من خلال زج المواطنين في جميع المعتركات الثقافية والوطنية ونشر الوعي وتعزيز الوحدة الوطنية بين أبناء المجتمع حيث أن سيادة الدولة تستمد قدرتها من قوة شعبها.
– يجب عدم الركون بصورة كلية للدول الإقليمية أوالدولية أوالسماح لها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدولة لأن ذلك يضعف سلطة الدولة ويفقدها سيادتها.
المراجع:
1- Chaumont.C., « Recherches du contenu irréductible du concept de souveraineté internationale du l’État », in hommage d’une génération de juristes au président Basdevant, éd.A . Pédone, 1960, p.151.
2- إحسان الفقيه، السيادة بين الوهم و الحقيقة، مقال منشور على الموقع الإلكتروني لكتاب عربي21، تاريخ النشر9 تشرين الأول2016.
3 – مولود، خطابي،السيادة في النظام الدولي المعاصر، مقالم منشور في مجلة شؤون استراتيجية، العدد17، مارس2024، ص105.
4- يعتبر “جون بودان” أول من نظَر لمصطلح سيادة الدولة على إقليمها، في “كتابة الكتب الست للجمهورية”، الذي صدر سنة 1576، و عرفها على أنها “سلطة الدولة العليا المطلقة والدائمة، والتي يخضع لها جميع الأفراد”، و أنها غير قابلة للتجزؤ، كما اعتبر سلطة الحاكم غير خاضعة للقانون لكونه مصدراً لكل القوانين”.
5- أنظر: المهدي، أقنين، تقهقر سيادة الدول في ظل التحولات الدولية، شؤؤن استراتيجية، العدد2، يونيو2017، ص55.
6- د.مهدي، محفوظ، اتجاهات الفكر السياسي في العصر الحديث، الطبعة الأولى1990، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت، ص55.
7 – منال، علي، مفهوم السيادة و السلطة المطلقة في فلسفة جان بودان، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العدد التاسع و الثلاثون، ج4، ص116.
8- د. مهدي، محفوظ، المرجع السابق، ص 55.
9- المرجع السابق، ص 68-69
10- د. مهدي، محفوظ، المرجع السابق، ص150. أنظر أيضاً: منال علي، المرجع السابق، ص117.
11- المهدي، أقنين، تقهقر سيادة الدول في ظل التحولات الدولية، شؤؤن استراتيجية، العدد2، يونيو2017، ص33.
12- جمال، بن مرار، مفهوم السيادة الوطنية في ظل العولمة، مجلة مدارات سياسية، المجلد1، العدد2، سبتمبر2017، ص21.
13- جمال، بن مرار، المرجع السابق، ص22.
14- حسن عبدالله، العابد، انعكاسات العولمة على السيادة الوطنية، الأردن، دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، 2009، ص55.
15- منال، علي، المرجع السابق، ص119.
16- وقع ميثاق الأمم المتحدة في 26 يونيو 1945 في سان فرانسيسكو في ختام مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بنظام الهيئة الدولية، و أصبح نافذاً في 24 أكتوبر 1945. و يعتبر النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية جزءاً متمماً للميثاق.
17- ديباجة ميثاق الأمم المتحدة.
18- المادة الأولى، الفقرة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة.
19- المادة الثانية، الفقرة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة.
20- Voir La Charte des Nations Unies, Document D’études, No 302, La Documentation Française, Paris, 2001, P.3
21- المادة الثانية، الفقرة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة.
22- المادة الثامنة والسبعون من ميثاق الأمم المتحدة.
23- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2131، وثائق الأمم المتحدة، رقم الوثيقة A/RES/2131.
24- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2625، وثائق الأمم المتحدة، رقم الوثيقة A/RES/2625.
25- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2734، وثائق الأمم المتحدة، رقم الوثيقة، A/RES/2734.
26- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 155، وثائق الأمم المتحدة، رقم الوثيقة A/RES/32/155.
27- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 103/39، وثائق الأمم المتحدة، رقم الوثيقة A/RES/39/103.
28- جمال، بن مرار، المرجع السابق، ص22؛ أنظر أيضاً: منال، علي، المرجع السابق، ص120.
29- طلال، العيسى، السيادة بين مفهومها التقليدي و المعاصر “دراسة في مدى تدويل السيادة في العصر الحاضر”، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإقتصادية و القانونية، المجلد26، العدد الأول2010، ص47.
30- منال، علي، المرجع السابق، ص120.
31- مهدي، محفوظ، المرجع السابق، ص
32- منال، علي، المرجع السابق، ص120.
33- جمال بن مرار، مفهوم السيادة الوطنية في ظل العولمة، مجلة مدارات سياسية، المجلد1، العدد2، سبتمبر 2017، ص22.
34- منال، علي، المرجع السابق، ص120.
35- المهدي، أقنين، المرجع السابق، 39.
36- سامي، محمد، دواعي و آثار خرق السيادة في ظل المتغيرات الدولية، مجلة الدراسات القانونية والإقتصادية، المجلد العاشر، العدد الثاني، يونيه 2024، ص 1410.
37- وسام، رحم، انتهاك سيادة الدولة على إقليمها الجوي، رسالة مقدمة إلى مجلس كلية القانون، جامعة كربلاء، نيسان2022، ص23.
38- سامي، محمد، المرجع السابق، ص 1414.
39- محمد، محمد نصر، الوسيط في القانون الدولي العام، الطبعة الأولى، 2012، الرياض، ص 279.
40- المهدي، أقنين، المرجع السابق، ص 40.
41- محمد، علي عبد المعطي، و محمد، محمد علي، السياسة بين النظرية و التطبيق، دار الجامعات المصرية، القاهرة، 1974، ص 337.
42- سامي، محمد، المرجع السابق، ص 1429.
43- مولود، خطابي، السيادة في النظام الدولي المعاصر، مجلة شؤون استراتيجية، العدد17، آذار 2024، ص 111.
44- محمد، سامي، المرجع السابق، ص 1430.
45- إسماعيل، عبد الكافي، إدارة الصراعات و الأزمات الدولية، نظرة مقارنة لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي في مراحله المختلفة، 2006، ص 62.
46- خالد، المعيني، ذريعة “التدخل الإنساني” في العلاقات الدولية، مقال منشور على الموقع الإلكتروني:https://www.aljazeera.net ، تاريخ النشر9-4-2012.
47- أسامة، عرفات، المنظمات الدولية، دار الإجادة للنشر و التوزيع، الأردن، 2017، ص 72.
48- سامي، محمد، المرجع السابق، ص 1441.
49– ميثاق الأمم المتحدة، منشور على الموقع الإلكتروني:https://www.un.org
50- سامح عبد القوي، التدخل الدولي بين المشروعية و عدم المشروعية و انعكاساته على الساحة الدولية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2012، ص91.
51- مولود، خطابي، المرجع السابق، ص117.
52- سامي، محمد، المرجع السابق، ص1444.
53- العقيد الركن الياس أبو جودة، التدخل الدولي الإنساني و إشكالية السيادة، مجلة الجيش اللبناني، العدد 85، تموز 2013، ص 3.
54- مولود، خطابي، المرجع السابق، ص113.
“محكمة” – الاثنين في 2025/3/3